للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، (١) وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى:"لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم". فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة= يعني من الخيمة (٢) = حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. (٣) فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. =قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، (٤) وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان -فيما يزعمون- على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، (٥) قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"الأربعين" منصوبة بـ"التحريم"= وإنّ قوله:"محرمة عليهم أربعين سنة"، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. (٦) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم.

وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، (٧) كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها.


(١) في المطبوعة: "على رأس الجبل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "يعني من الحكمة"، والصواب ما أثبت، لأن"التابوت" كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة الكتابة. وانظر صفة"الخيمة" التي كان فيها التابوت في قاموس كتابهم.
(٣) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. وقد تبين أن ما رواه ابن إسحق، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح. ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة، عبارة ابن إسحق في سائر ما كتب من السير، وفيها عبارات وجمل وألفاظ، لا أشك في أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة ١٥٠ من الهجرة، فهذه الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قد تولاها بلا ريب رجال قبل هذا التاريخ، أي في القرن الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم، أرجو أن أتتبعه فيما بعد حتى أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة.
(٤) في المطبوعة: "التي تتيهوا" بتاءين، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري ١: ٢٢٦.
(٥) من أول قوله: "فلما شب النواشئ"، إلى هذا الموضع، مروي في تاريخ الطبري ١: ٢٢٦.
(٦) في المطبوعة: "عوج بن عنق"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر ما سلف أنه روى في اسمه"عاج" ص: ١٩٢، تعليق: ٢.
(٧) في المطبوعة: "باعوراء"، وأثبت ما في المخطوطة.

<<  <  ج: ص:  >  >>