للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ وتركت قول الله:"أو ينفوا من الأرض"، فنبيٌّ أنت، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها، أتجرَّدت للقتل والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل، (١) من غير ما أُشبِّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شَغْبٍ".

١١٨٧٠ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث، عن يزيدَ وغيره، بنحو هذا الحديث= غير أن يونس قال في حديثه:"كأنك عبد بني أبي عقال، (٢) من غير أن أشبهك به".

١١٨٧١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصَّلت، كاتب حيَّان بن سُرَيج، أخبرهم: أن حيّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز:"أن ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأن الله يقول:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" فقرأ حتى بلغ،"وأرجلهم من خلاف"، وسكت عن النفي. وكتب إليه:"فإن رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي قضاءَ الله فيهم، فليكتب بذلك". فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حيان! ثم كتب إليه:"إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأتَ، كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو عِلْج صاحبِ العراق، (٣) من غير أن أشبهك بهما، فكتبت


(١) "تجرد للأمر": جد فيه جدا بالغًا، وتفرغ له وشمر فيه، كما يتجرد المرء من ثيابه وينضوها عنه لكيلا تعوقه. يقال: "تجرد فلان للعبادة"، وقال الأخطل: وَأَطْفَأْتُ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَ مَا ... أَعَدَّ لأَمْرٍ فَاجِرٍ وَتَجَرَّدَا
وقال ابن قيس الرقيات: تَجَرَّدُوا يَضْرِبُونَ بَاطِلَهُمْ ... بِالحقِّ حَتَّى تَبَيَّنَ الْكَذِبُ
و"عبد بني عقيل"، الصواب أن يقال"عبد بني أبي عقيل"، فإن أبا عقيل، هو جد"الحجاج ابن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي". وذلك أن ثقيفا جد الحجاج الأعلى، كان فيما يقولون، هو: "قسى (ثقيف) بن منبه بن النبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار"، وأنه ليس كما جاء في نسب ثقيف أنه من"مضر بن نزار"، وأن ثقيفًا، فيما يروي عن ابن عباس: كان عبدًا لامرأة نبي الله صالح، فوهبته لصالح، وأنه هو"أبو رغال" الذي يرجم قبره. يقول حسان بن ثابت في هجاء ثقيف (ديوانه: ٣٤١، ٣٤٢) : إِذَا الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا: ... هَلُمَّ نَعُدُّ أُمَّ أَبِي رِغَالِ
أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا ... وأَنْتُمْ مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ
وفي هذا الشعر زعم حسان أن ثقيفًا كان عبدًا للفرز، وهو سعد بن زيد مناة بن تميم، فقال: عَبِيدُ الْفِزْرِ أَوْرَثَهُمْ بَنِيِه ... وَآلَى لا يَبِيعُهُمُ بِمَالِ
وَمَا لِكَرَامَةٍ حُبِسُوا، وَلَكِنْ ... أَرَادَ هَوَانَهُمْ أُخْرَى اللَّيَالِي
وأما هجاء الحجاج بأنه"عبد من إياد"، فيقول مالك بن الريب (الكامل ١: ٣٠٢) : فَمَاذَا تَرَى الحجَّاجَ يَبْلُغُ جُهْدُهُ ... إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا حَِيرَ زِيادِ
فَلَوْلا بَنُوا مَرْوَانَ كَانَ ابْنُ يُوسُفٍ ... كَمَا كَانَ، عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ إيَادِ
زَمَانَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ بِذِلَّةٍ ... يُرَاوِحُ صِبْيَانَ الْقُرَى وَيُغَادِي
فإن الحجاج كان معلمًا بالطائف، وكان يهجى بذلك. فهذا تفسير"عبد بني أبي عقيل". وكان الحجاج، كما تعلم، مسرفًا في القتل، فلذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال.
(٢) لم أجد وجها لقوله: "عبد بن أبي عقال"، فإن جده الذي ينسب إليه هو"أبو عقيل" كما سلف في الأثر الماضي.
(٣) "يزيد بن أبي مسلم"، و"يزيد بن دينار"، من موالي ثقيف، وليس مولى عتاقة، وكان أخا الحجاج من الرضاعة. وكان من أصحاب الحجاج وولاته، وكان يتشبه به في سيرته، وولي العراق وإفريقية. قال ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز: ٣٤، ٣٥: "وكان يظهر التأله، والنفاذ لكل ما أمر به السلطان، مما جل أو صغر، من السيرة بالجور، والمخالفة للحق. وكان في هذا يكثر الذكر والتسبيح، ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون، وهو يقول: سبحان الله والحمد لله، شد يا غلام موضع كذا وكذا -لبعض مواضع العذاب- وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام موضع كذا وكذا. فكانت حالته شر تلك الحالات".
وكان يزيد يوم استخلف عمر بن عبد العزيز، واليًا على إفريقية، فلم يكد عمر يواري جثة سليمان بن عبد الملك، حتى عجل ودعا بقرطاس ودواة، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره. فأخذ الناس يهمزون عمر بن عبد العزيز، لما رأوو من عجلته، فقالوا: "ما هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟ هذا حب السلطان! هذا الذي يكره ما دخل فيه!!. ولم يكن بعمر عجلة، ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه، ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه. فكان أحد هذه الكتب الثلاثة كتابه بعزل يزيد بن أبي مسلم. (سيرة عمر بن عبد العزيز: ٣٤، ٣٥ / والوزراء للجهشياري: ٤٢) .
وأما "علج صاحب العراق" = و"العلج" الرجل من كفار العجم وغيرهم = فإنه يعني الحجاج نفسه وكان واليًا على العراق، وجعله"علجًا"، كأنه مولى من الموالي غليظ، كما سماه عبدا في الأثر السالف.

<<  <  ج: ص:  >  >>