(٢) الأثران: ١٢٠٢٥، ١٢٠٢٦- اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها. والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب عليا رضي الله عنه. وكان قوم أبي مجلز، وهم بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه، طائفة من بني شيبان، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: ١٢٠٢٥) ، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر: ١٢٠٢٦) ، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي (انظر هذا التفسير ٧: ١٥٢-١٥٣، تعليق: ١) ، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله، في أمر التحكيم. ثم إن عبد الله بن إباض قال" إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم. ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه -في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا أيضًا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها. ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء، لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: ١٢٠٢٥) : "فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا"، وقال لهم في الخبر الثاني"إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب". وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!! ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناوله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله. وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضى بتبديل الأحكام= فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. واقرأ كلمة أبي جعفر بعد ص: ٣٥٨، من أول قوله: "فإن قال قائل". ففيه قول فصل. وتفصيل القول في خطأ المستدلين بمثل هذين الخبرين، وما جاء من الآثار هنا في تفسير هذه الآية، يحتاج إلى إفاضة، اجتزأت فيها بما كتبت الآن، وكتبه محمود محمد شاكر. (٣) الأثر: ١٢٠٢٧-"حبيب بن أبي ثابت الأسدي"، ثقة صدوق. مضى برقم: ٩٠١٢، ٩٠٣٥، ١٠٤٢٣. و"أبو البختري"، هو"سعيد بن فيروز الطائي"، تابعي ثقة، يرسل الحديث عن عمر وحذيفة وسلمان وابن مسعود. قال ابن سعد في الطبقات ٦: ٢٠٤: "وكان أبو البختري كثير الحديث، يرسل حديثه، ويروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من كبير أحد. فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان"عن"، فهو ضعيف". ومضى برقم: ١٧٥، ١٤٩٧، فهو حديث منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من حذيفة. وقوله: "قدى" (بكسر القاف وفتح الدال) . يقال: "هو مني قيد رمح" (بكسر القاف) و"قاد رمح" و"قدى رمح" بمعنى، واحد: أي: قدر رمح، قال هدبة بن الخشرم: وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ لَمْ يَكُ دُونَهُ ... قِدَى الشِّبْرِ، أَحْمِي الأنْفَ أَنْ أَتَأَخَّرَا و"الشراك": سير النعل، ويضرب به المثل في الصغر والقصر. يريده تشبونهم: لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا. وكان في المطبوعة هنا: "قدر الشراك"، وأثبت ما في المخطوطة، في هذا الأثر، وفي رقم: ١٢٠٣٠. وخبر حذيفة، رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٢، ٣١٣، من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: "كنا عند حذيفة، فذكروا: "ومن لم يحكم لما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر! كلا، والذي نفسي بيده، حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي."السنة": الطريقة المتبعة. و"القذة": ريش السهم، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويا.