للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة = وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت = وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله:"ثم إلى ربهم يحشرون"، إذ كان"الحشر"، في كلام العرب الجمع، (١) ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [سورة ص: ١٩] ، يعني: مجموعة. فإذ كان الجمع هو"الحشر"، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها = وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله:"ثم إلى ربهم يحشرون"، ولم يخصص به حشرًا دون حشر.

* * *

فإن قال قائل: فما وجهُ قوله:"ولا طائر يطير بجناحيه"؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟

قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا:"كلمت فلانًا بفمي"، و"مشيت إليه برجلي"، و"ضربته بيدي"، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: (إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَي) [سورة ص: ٢٣] . (٢)


(١) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ص: ٣٤٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: ذكر الآية كقراءتها في مصحفنا، هكذا: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة"، وليس هذا موضع استشهاد أبي جعفر، والصواب في المخطوطة كما أثبته. وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وقد ذكرها أبو جعفر في تفسيره بعد (٢٣: ٩١، بولاق) ثم قال: [وذلك على سبيل توكيد العرب الكلمة، كقولهم: هذا رجل ذكر"، ولا يكادون يفعلون ذلك إلا في المؤنث والمذكر الذي تذكيره وتأنيثه في نفسه، كالمرأة والرجل والناقة، ولا يكادون أن يقولوا: "هذه دار أنثى، وملحفة أنثى"، لأن تأنيثها في اسمها لا في معناها] .

<<  <  ج: ص:  >  >>