للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا (١)

قالوا: فقال الشاعر: "أردفت"، وإنما أراد "ردفت"، جاءت بعدها، لأن الجوزاء تجئ بعد الثريا.

وقالوا معناه إذا قرئ (مردَفين) ، أنه مفعول بهم، كأن معناه: بألف من الملائكة يُرْدِف الله بعضهم بعضًا. (٢)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك، إذا كسرت الدال: أردفت الملائكة بعضها بعضًا= وإذا قرئ بفتحها: أردف الله المسلمين بهم.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) ، بكسر الدال، لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم، أن معناه: يتبع بعضهم بعضًا، ومتتابعين= ففي إجماعهم على ذلك من التأويل، الدليلُ الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال، بمعنى: أردف بعض الملائكة بعضًا، ومسموع من العرب: "جئت مُرْدِفًا لفلان"، أي: جئت بعده.

وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرئ "مردَفين" بفتح الدال: أن الله أردفَ المسلمين بهم= فقولٌ لا معنى له، إذ الذكر الذي في "مردفين" من الملائكة دون المؤمنين. وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يُرْدَف بعضهم ببعض. ثم حذف ذكر الفاعل، وأخرج الخبر غير مسمَّى فاعلُه، فقيل: (مردَفين) ، بمعنى: مردَفٌ بعض الملائكة ببعض.

ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله، وجب أن يكون في "المردفين" ذكر المسلمين، لا ذكر الملائكة. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن.


(١) الأغاني ١٣: ٧٨، معجم ما استعجم: ١٩، سمط اللآلئ: ١٠٠، شرح ديوان أبي ذؤيب: ١٤٥. المعارف لا بن قتيبة: ٣٠٢، الأزمنة والأمكنة ٢: ١٣٠، جمهرة الأمثال: ٣١، الأمثال للميداني ١: ٦٥، اللسان (ردف) ، (قرظ) .
وسبب هذا الشعر: أن حزيمة بن نهد كان مشئومًا فاسدًا متعرضًا للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر ابن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، (وهو أحد القارظين المضروب بهما المثل) ، فاجتمع قومه وقومها في مربع، فلما انقضى الربيع، ارتحلت إلى منازلها فقيل له: يا حزيمة: لقد ارتحلت فاطمة! قال: أما إذا كانت حية ففيها أطمع! ثم قال في ذلك: إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا
ظَنَنْتُ بِهَا، وَظَنُّ المرء حُوبٌ ... وَإنْ أَوْفَى، وَإِنْ سَكَنَ الحَجُونا
وَحَالَتْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هُمُومِي ... هُمُومٌ تُخْرِيُج الشَّجَنَ الدَّفينَا
أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فَحَلَّتْ ... جَنُوبَ الْحَزْنِ، يا شَحَطًا مُبِينَا!
فبلغ ذلك ربيعة، فرصدوه، حتى أخذوه فضربوه. فمكث زمانًا، ثم أن حزيمة قال ليذكر ابن عنزة: أحب أن تخرج حتى نأتي بقرظ. فمرا بقليب فاستقيا، فسقطت الدلو، فنزل يذكر ليخرجها. فلما صار إلى البئر، منعه حزيمة الرشاء، وقال: زوجني فاطمة! فقال: على هذه الحال، اقتسارًا! أخرجني أفعل! قال: لا أخرجك! فتركه حتى مات فيها. فلما رجع وليس هو معه، سأله عنه أهله، فقال: فارقني، فلست أدري أين سلك! فاتهمته ربيعة، وكان بينهم وبين قومه قضاعة في ذلك شر، ولم يتحقق أمر فيؤخذ به، حتى قال حزيمة: فَتَاةٌ كَأَنَّ رُضَابَ العَبِيرِ ... بِفِيهَا، يُعَلُّ بِهِ الزَّنْجَبِيلُ
قَتَلْتُ أَبَاهَا عَلَى حُبِّهَا، ... فَتَبْخَلُ إنْ بَخِلَتْ أوْ تُنِيلُ
عندئذ، ثارت الحرب بين قضاعة وربيعة.
قال أبو بكر بن السراج في معنى بيت الشاهد: " إن الجوزاء تردف الثريا في اشتداد الحر، فتتكبد السماء في آخر الليل، وعند ذلك تنقطع المياه وتجف، فيتفرق الناس في طلب المياه، فتغيب عنه محبوبته، فلا يدري أين مضت، ولا أين نزلت ". وانظر أيضًا شرحه في الأزمنة والأمكنة ٢: ١٣٠، ١٣١.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٤، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>