للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: (إلا أماني) ، بالحق، وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن"الأميين" الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا. (١)

* * *

و"التمني" في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه:"تمنيت كذا"، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:"ما تغنيت ولا تمنيت"، (٢) يعني بقوله:"ما تمنيت"، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.

* * *

والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: (إلا أماني) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: (وإن هم إلا يظنون) . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم"يتلونه"، لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه:"يشتهونه". لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود -فيما بلغنا-


(١) في المطبوعة: "وأنهم لا يفقهون" بزيادة الواو، وهو خطأ لا يستقيم، والصواب ما أثبته من ابن كثير ١: ٢١٦.
(٢) في الفائق ١: ١٦٣ عن عثمان رضي الله عنه: "قد اختبأت عند الله خصالا: إني لرابع الإسلام، وزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثم ابنته، وبايعته بيدي هذه اليمنى فما مسست بها ذكرى، وما تغنيت ولا تمنيت، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا إسلام". وروى الطبري في تاريخه في خبر مقتله رضي الله عنه ٥: ١٣٠، أن الرجل الذي انتدب لقتله دخل عليه فقال له: "اخلعها وندعك. فقال: ويحك! ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز وجل".

<<  <  ج: ص:  >  >>