للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنِ العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِ ... ذِرَاعًا وَإنْ صَبْرًا فنَعْرِفُ للصَّبْرِ (١)

وقال: أراد: إن يكن العقل فأضمره. قال: وإن جعلت "ما بكم" في معنى الذي جاز، وجعلت صلته بكم و "ما" في موضع رفع بقوله (فَمِنَ اللَّهِ) وأدخل الفاء، كما قال (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) وكل اسم وصل مثل من وما والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول: مالك لي، فإن قلت: مالك، جاز أن تقول: مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب.

وتأويل الكلام: ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة، وفي أموالكم من نماء، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره، لأن ذلك إليه وبيده (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) يقول: إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض، وعلة عارضة، وشدّة من عيش (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) يقول: فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به، ليكشف ذلك عنكم، وأصله: من جؤار الثور، يقال منه: جأر الثور يجأر جؤارا، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره، ومنه قول الأعشى:

وَما أيْبُلِيٌّ عَلى هَيْكَلِ ... بَناهُ وَصَلَّبَ فِيهِ وصَارَا ... يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتٍ المَلِيـ ... كِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤْارًا (٢)


(١) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (١: ١٧٣) عند قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله. قال: ما: في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله؛ لأن الجزاء لا بد له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر، كما قال الشاعر: "إن العقل.." البيت. أراد: إن يكن، فأضمرها. ولو جعلت " ما بكم " في معنى "الذي": جاز، وجعلت صلته "بكم"، والذي حينئذ: في موضع رفع، بقوله "فمن الله". وأدخل الفاء، كما قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) . وكل اسم وصل، مثل من وما، والذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره؛ لأنه مضارع للجزاء، والعقل في البيت معناه: الدية.
(٢) البيتان من شعر الأعشى ميمون بن قيس (ديوانه طبع القاهرة ص ٥٣) من قصيدة له سبعون بيتا، يمدح بها قيس ابن معد يكرب. والأييلي: الراهب صاحب الأيبل، وهو العصا التي يدق بها الناقوس. والهيكل: موضع في صدر الكنيسة، يقرب في القربان. صلب صور فيه الصليب. وفي اللسان صار:
صور عن أبي علي الفارسي. ويلوح لي أن المراد بصور في البيت: هو ما قاله الأعشى في بيت آخر وهو قوله وفي وصف الخمر "وصلى على دنها وارتسم". ومعنى ارتسم: أشار بيده على جبهته وقلبه وصدره يمنة ويسرة، كما يفعل المسيحيون. وراوح بين العملين: تداول هذا مرة، وهذا مرة. وجأر إلى الله جؤارا: تضرع إليه بالدعاء والاستغاثة. يقول: ليس الراهب المعتكف في هيكله أمام صليبه، دائبا على صلواته سجوداً وتضرعاً إلى الله، بأعظم منه تقي في الحساب (خبر مِا: في البيت الذي بعد البيتين) .

<<  <  ج: ص:  >  >>