للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وشيَّد فيها قصرا، وأنبط فيها نهرا، وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب، وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمّة، حفيظا قويا أمينا، وتأنى طلعها وانتظرها؛ فلما أطلعت جاء طلعها خروبا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قيمها، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة، خربة مواتا لا عمران فيها، قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي، وإن القصر شريعتي، وإن النهر كتابي، وإن القِّيم نبيي، وإن الغراس هم، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنه مثَلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقِّه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا، فلما قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدا، فقال الله: قل لهم: إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولِّف بينها، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقِّه قلوبهم، وأنا الذي صوّرتها؛ يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلَّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئب، في كلّ ذلك لا نسمع، ولا يُستجاب لنا؛ قال الله: فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلت، كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري، ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها؛ أو لأن البخل يعتريني، أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل؛ لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني، وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم، أو جر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد، وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبَّت ألسنتهم وعقولهم، يقولون لمَّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسرّ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بدّ أنه واقع، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه، أو في أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلِّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوّة في الأجراء، وأن أحوّل الملك في الرعاء، والعزّ في الأذلاء، والقوّة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والثروة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبردى في الغيطان، والعلم ف ي الجهلة، والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أمِّيا، ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالِّين، وليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفُحش، ولا قوّال للخنا، أسدده لكل جميل، أهب له كلّ خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والعرف خلقه؛ والعدل والمعروف سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلَّة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلِّف به قلوبا مختلفة، وأهواء مشتتة، وأممًا متفرّقة، وأجعل أمته خير أمَّة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا وإخلاصا بي، يصلون لي قياما وقعودا، وركوعا وسجودا، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والحمد والمدحة، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلِّلون، ويقدّسون على رءوس الأسواق، ويطهرون لي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها.

قال أبو جعفر: فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله، وعتوّهم على ربهم، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم

<<  <  ج: ص:  >  >>