للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليها كان ذلك متضمنًا للمحال والعبث والقدح في الربِّ تعالى ورسله وكلامه من وجوهٍ متعددةٍ، فكيف يحسُن به وبرحمته وحكمته وعنايته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم أن يخاطبهم بكلامٍ يريد منهم أن يفهموا منه ما لا يدل عليه بوجهٍ ما؟! وهو سبحانه قد أكذب هذا الظن الكاذب الجائر بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٥] وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: ٤٣]. فخطابهم بذلك من جنس خطاب كل أمةٍ بِلُغةٍ لا تفهمها البتة، بل أبعد منه، لأنها يمكنها التوصل إلى معرفة المراد بهذا الخطاب بالترجمة كما يُترجم التَّرَاجِم بين الرُّسل والملوك. وأمَّا الخطاب بما لا يدل على المعنى المراد بوجهٍ في لغة من اللغات وإرادة اعتقاد ذلك المعنى منه فلا يفعله عاقلٌ، ويُصان عنه عقلاء البشر فضلًا عن أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين. وهذا لو كان المراد منه معاني لا يناقضها الكلام ولا يدل عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ، فكيف إذا كان الكلام المخاطب به له معانٍ تُناقض تلك المعاني التي أراد منهم فهمها ومخالفتها؟ فهذا أبلغ في الإحالة.

وإن قلتم: بل له معانٍ ظاهرةٌ مفهومةٌ أراد من العباد اعتقادها والإقرار بها، فإمَّا أن تقولوا: هي في نفسها حقٌّ مطابقٌ للواقع، أو تقولوا: ليس لها وجودٌ بل هي منتفيةٌ في نفس الأمر. فإن قلتم بالأول صدقتم، ورجعتم إلى موجب العقل والنقل. وإن قلتم بالثاني لزمكم أن يكون الله ورسوله أراد من العباد اعتقاد الباطل والضلال والتشبيه والتجسيم، وهذا غاية المُشاقَّة (١) والقدح في الحكمة والرحمة.


(١) «ح»: «المشقة». والمشاقة: الخلاف والعداوة. «الصحاح» (٤/ ١٥٠٣).