للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره. فتأمَّل سائرًا وحدَه بأرض مفازةٍ معطشةٍ لا ماء بها ولا زاد، ضلت راحلته فيها فاشتد جوعه وظمؤه، فأيس من الحياة، فاضطجع في أصل شجرةٍ ينتظر الموت، ثم استيقظ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه، كما جاء ذلك مصرحًا به في بعض طرق هذا الحديث (١). فهل في الفرح قط أعظم من هذا. ولهذا الفرحِ بتوبة العبد سرٌّ أكثر الخلق محجوبون عنه، لا تبلغه عقولهم. وبه يُعرف سرُّ تقدير ما يُتاب منه على العبد؛ لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الربِّ سبحانه من عدمه. فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحِكَم إلَّا هذه وحدها لكانت كافيةً، فكيف وفيه من الحِكَم ما لا يحصيه إلَّا الله، ممَّا ليس هذا موضعه (٢).

الوجه العاشر: أن الجهمي احتجَّ على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتأثير عن العبد، والمخلوق لا يؤثر في الخالق، فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المُحْدَث قد أثَّر في القديم تلك الكيفيات، وهذا محالٌ.

وهذه الشُّبهة من جنس شُبَههم التي تُدهش السامع أول ما تطرق سمعه وتأخذ منه وتروعه، كالسِّحر الذي يُدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره، وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره على خصمه. وهكذا شُبه


(١) أخرجه البخاري (٦٣٠٨) ومسلم (٢٧٤٤) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
(٢) توسع المصنِّف في ذكر هذه الحِكَم في «مفتاح دار السعادة» (٢/ ٨١١ - ٨٤٧) وفي «طريق الهجرتين» (٣٦٢ - ٣٧٢). وقد ابتدأه المصنِّف في «المفتاح» بقوله: «وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة، قل من استفتحه من الناس، وهو شهود الحكمة البالغة في قضاء السيئات وتقدير المعاصي ... فقل أن ترى لأحدهم فيه ما يشفي أو يُلم».