للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا يقتضيه النقل. وقال الآخر: في الرَّأي والقياس ما لا يجيزه الحديث. وقال الآخر: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة. وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وقال الآخر: في الباطن ما يكذبه الظَّاهر. فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمر مضبوطٌ مطابقٌ لما عليه الأمر في نفسه، تلقَّاه الصَّادق المصدوق من لدن حكيمٍ عليمٍ.

الوجه السَّادس والثمانون: أن الصَّحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص فيه (١)، فيوردون إشكالاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم عنها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحدٌ منهم يورد عليه معقولًا يعارض النَّصَّ البتةَ، ولا عُرف فيهم أحدٌ ـ وهم أكمل الأُمم عقولًا ـ عارَضَ نصًّا بعقله يومًا من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار ـ كما تقدم (٢).

وثبت في «الصحيح» (٣) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. فقالت عائشة يا رسول الله: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: ٧ - ٨] فقال: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». فأشكل عليها الجمع بين النصَّين حتى بيَّن لها ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه لا تعارُض بينهما، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يُبيِّن الله فيه لكل عاملٍ عمله، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: ١٨] حتى إذا ظنَّ


(١) «فيه» ليس في «م». والضمير يعود للوحي.
(٢) تقدم (ص ٦٧٤ - ٦٧٥).
(٣) البخاري (٦٥٣٦) ومسلم (٢٨٧٦).