للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ (١) الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فاقتضت رحمةُ العزيز الرحيم أنْ بَعَثَ الرسلَ به مُعَرِّفِين، وإليه دَاعِين، ولمن أجابهم مُبَشِّرِين، ولمن خالفهم مُنْذِرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزُبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن (٢) الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعةٌ لمعرفة المَرْجُوِّ المَخُوف المَحْبُوب المُطَاع المَعْبُود.

ولمَّا كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الربِّ تعالى قال أفضلُ الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ... » وذكر باقي الحديث، وهو في الصحيحين (٣)، وهذا اللفظ لمسلم.

فأساسُ دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ معرفةُ الله سبحانه


(١) جمع حِنْدِس، وهو الليل شديد الظلمة. «الصحاح» (٣/ ٩١٦).
(٢) «ب»: «وإن».
(٣) البخاري (١٤٩٦) ومسلم (١٩).