للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أكمله، وليس عنده من المعقولات عينٌ ولا أثرٌ ولا حسٌّ ولا خبرٌ.

ثم يُخلق فيه التمييز، وهو طورٌ آخر من أطوار وجوده، فيدرك في هذا الطور أمورًا أُخَرَ زائدة على المحسوسات لم يكن يدركها قبل ذلك. ثم يترقى إلى طورٍ آخر يدرك به الواجب والجائز والمستحيل، وأن حكم الشيء حكم مثله، والضد لا يجتمع مع ضده، والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر، ونحو ذلك من أوائل العلوم الضرورية.

ثم يترقى إلى طورٍ آخر يستنتج فيه العلوم النظرية من تلك الضروريات التي تقدَّم علمه بها، ثم يترقى في هذا الطور من أمرٍ إلى أمرٍ فوقه وأغمض منه نسبةُ ما قبله إليه كنسبة الحسِّ إلى العقل.

ثم وراء ذلك كله طورٌ آخر نسبةُ ما قبله إليه كنسبة أطوار الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة، ينفتح فيه عينٌ يُبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمورًا العقل معزولٌ عنها كعزل الحسِّ عن مدركات العقل. وهذا هو طور النبوة الذي نسبةُ نور العقل المجرد إليه دون نسبة ضوء السِّراج إلى الشمس. فإنكار العقل لما يُخبر به النبي عين الجهل، ولا مستند له في إنكاره، إلَّا أنه لم يبلغه ولم يصل إليه، فيظن أنه غير ثابتٍ في نفسه. يوضحه:

الوجه التَّاسع والخمسون: وهو أنك [ق ٦١ ب] إذا جعلت العقل ميزانًا ووضعت في أحد كِفَّتَيْه كثيرًا من الأمور المشاهَدة المحسوسة التي ينالها العيان، ووضعت في الكِفَّة الأخرى الأمور التي أخبرتْ بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجدت ترجيحَه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحِه للتي قبلها وتصديقِه بها أقوى (١)، ولولا


(١) كذا في «ح، «م» ولفظ أقوى زائد اختل به السياق، فقد تمَّ الكلام قبله.