للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الوجه الخامس والثلاثون: أن ألفاظ القرآن التي وقعت في باب الحمد والذمِّ وقعت بما فيها من الفخامة والجلالة عامة، وكان عمومها من تفخيمها، وجلالة قدرها، وعِظَمة شأنها. وذلك أن مِن شأن مَن يَقصِد تفخيم كلامه من عظماء النَّاس أن يستعمل فيه أمرين:

أحدهما: العدول بكلامه عن الخصوص إلى العموم، إلَّا (١) حيث تدعو الحاجة إلى ذكر الخصوص لأمرٍ لا بدَّ منه؛ ليكون خطابه كليًّا شاملًا يدخل تحته الخَلْق الكثير. وكلما كان الدَّاخلون تحت خطابه أعمَّ وأكثر كان ذلك أفخم لكلامه وأعظم لشأنه. فأين العظمة والجلالة في قوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: ٢٠] إلى العظمة في قوله: يا أهل مكة اعبدوا ربكم؟! فمن فخامة الكلام وجلالة المتكلم به أن يدخل في اللفظة الواحدة جميع ما يصلح له، فيدلُّ باللفظ القصير على المعاني الكثيرة العظيمة (٢)، فتجمع العموم والإيجاز والاختصار والبيان وحُسن الدلالة، فتأتي بالمعنى طبق اللفظ لا يقصر عنه ولا يوهم غيره.

ومَن علم هذا وتدبَّر القرآن وصرف إليه فِكْره؛ علم أنه لم يقرع الأسماع قطُّ كلامٌ أوجزُ ولا أفصحُ ولا أشدُّ مطابقة بين معانيه [ب ٩٤ ب] وألفاظه منه. وليس يوجد في الكتب المنزَّلة من عند الله كتابٌ جمعتْ ألفاظُه من الإيجاز والاختصار والإحاطة بالمعاني الجليلة والجزالة والعذوبة وحُسن الموقع من الأسماع والقلوب ما تضمَّنَتْه ألفاظُ القرآن. وقد شَهِدَ له بذلك أعداؤه. وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرأ: {فَاَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: ٩٤] فسجد،


(١) ب: «إلى». والمثبت هو الصواب.
(٢) هذا الأمر الثاني لتفخيم الكلام، وهو الإيجاز.