للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقيل له: ليست بآيةَ سجود. فقال: سجدتُ لفصاحة هذا الكلام (١).

فإذا تأمَّلْت طريقته وجَدْتَها طريقةَ مخاطبة مَلِك النَّاس كلِّهم لعبيده ومماليكه، وهذا أحد الدلائل الدَّالة على أنه كلامه الذي تكلَّم به حقيقة، لا كلامُ غيره من المخلوقين. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُوتي جوامع الكلام (٢)، وبين كلامه وكلام الله ما لا يحصره نسبة، فكيف يجوز في الأوهام والعقول أن تُحمَل جوامع كلمات الربِّ تعالى على ما يناقض عمومها ويحطُّها من مرتبة عظمة العموم ومحاسنه وجلالة شأنه إلى حضيض الخصوص؟! بل الواجب أن يُقال: إن خطاب الله عز وجل في كل ما أَمَرَ به ونهى عنه وحَمِدَ أو ذمَّ عليه ووعد عليه بثوابه وعقابه خرج في ذلك كله مخرجًا عامًّا كليًّا بحسَب ما تقتضيه جلالة الربوبية ومرتبة الملك والسلطان العام لجميع الخلق.

ولو ترك المتأوِّلون ألفاظه تجري على دلائلها الكلية وأحكامها العامة وظواهرها المفهومة منها وحقائقها الموضوعة لها؛ لأفادتهم اليقين، وجزموا بمراد المتكلم بها، ولانحسمت بذلك موادُّ أكثر التأويلات الباطلة والتحريفات التي تأباها العقول السليمة، ولما تهيَّأ لكل مبطلٍ أن يَعمِد إلى آيات من القرآن فيُنزِلها على مذهبه الباطل ويتأوَّلها عليه ويجعلها شاهدةً له وهي في التحقيق شاهدة عليه، ولَسَلِمَ القرآن والحديث من الآفات التي جناها عليهما المتأوِّلون وألصقها بهما المحرِّفون، والله المستعان.

فهذا ما يتعلق بقوله: إن الأدلة النقلية موقوفة على العلم بعدم التخصيص بالأزمنة والأمكنة والأشخاص.


(١) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (١/ ٣٠) عن أبي عبيد.
(٢) أخرجه البخاري (٢٩٧٧) ومسلم (٥٢٣) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.