للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلا يمكن الحكم بين النَّاس في موارد النِّزاع والاختلاف على الإطلاق إلَّا بكتابٍ منزَّلٍ من السماء يرجع الجميع إلى حكمه، وإلَّا فكل واحدٍ من أرباب المعقولات يقول: عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي، وهذا يُدْلي بمعقولٍ، وهذا يُدلي بمعقولٍ.

الوجه السَّابع عشر: أن الله سبحانه قد تمَّم الدِّين بنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأكمله به، ولم يُحْوِجْه ولا أُمتَه بعده إلى عقلٍ ولا نقلٍ سواه، ولا رأيٍ ولا منامٍ ولا كشوفٍ. قال تعالى: {اِلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اُلْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣] وأنكر على من لم يكتفِ بالوحي من غيره؛ فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥١]. ذكر هذا جوابًا لطلبهم آيةً تدلُّ على صدقه، فأخبر أنه يكفيهم من كل آيةٍ، فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلًا على صدقه، فضلًا عن أن يكون كافيًا. وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آيةً وبرهانًا على صحة النبوة.

والمقصود أن الله سبحانه تمَّم الدِّين وأكمله بنبيه وما بعثه به، فلم يُحْوِجْ أُمته إلى سواه، فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيًا للأُمة، ولا كان تامًّا في نفسه.

في «مراسيل أبي داود» (١)

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب


(١) «المراسيل» (٤٥٤) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بكتابٍ في كتفٍ فقال: «كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابهم إلى نبي غير نبيهم». فأنزل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
والحديث أخرجه الدارمي في «مسنده» (٤٩٥) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٩/ ٣٠٧٢) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (١٤٨٥) من طريق ابن عيينة به.
وأخرجه الطبري في «التفسير» (١٨/ ٤٢٩) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار به مرسلًا.

وخالف إبراهيم بن يزيد الخوزي ابن عيينة وابن جريج؛ فرواه عن عمرو عن يحيى عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه الإسماعيلي في «معجمه» (٣٨٤) وإبراهيم متروك الحديث، ولا يلتفت لمخالفته.
وليس في طرق هذا الحديث أن الذي جاء بالكتاب عمر - رضي الله عنه -، ولعل المصنف عنى ما أخرجه أحمد (١٥١٥٦) وغيره، أو ما في «المراسيل» لأبي داود (٤٥٥) عن أبي قلابة، وفي أسانيدها كلام، وينظر «مسند الفاروق» (٢/ ٥٤٤ - ٥٤٨).