للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالأدلة (١) العقلية البرهانية على صدق الرُّسل وتثبيت نبوتهم أضعاف الأدلة الدَّالة على صدق المُخبرِينَ خبر التواتر، فإن أولئك لم يَقُمْ على صدق كل واحدٍ منهم دليلٌ، وإنما أفاد اجتماعهم على الخبر دليلًا على صدقهم. والرسل ـ صلاة الله وسلامه عليهم ـ قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فردٍ فردٍ منهم [ق ٥١ ب] وقد اتفقت كلمتهم وتواطَأَ خبرهم على إثبات العلوِّ والفوقية لله، وأنه على عرشه فوق سماواته بائنٌ من خلقه، وأنه مكلَّمٌ متكلِّمٌ، آمِرٌ ناهٍ، يرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويُحبُّ ويُبغض.

فإفادة خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من إفادة الأخبار المتواترة لمخبرها، فإن الأخبار المتواترة مستندةٌ إلى حسٍّ قد يغلط، وأخبار الأنبياء مستندةٌ إلى وحيٍ لا يغلط، فالقدح فيها بالعقل من جنس شُبه السوفسطائية القادحة في الحسِّ والعقل. ولو التفتنا إلى كل شبهةٍ يُعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوقٌ بشيءٍ نعلمه بحسٍّ أو عقلٍ أو بهما. يوضحه:

الوجه التَّاسع والثلاثون: أن المعلومات الغائبة التي لا تُدرك إلَّا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحسِّ والعقل، بل لا نسبة بينهما بوجهٍ من الوجوه. ولهذا كان إدراك السمع أعمَّ وأشمل من إدراك البصر، فإنه يُدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والعلوم التي لا تدرك بالحسِّ. وهذا حُجة مَن فضَّل السمع على البصر من النُّظار وغيرهم، وخالفهم آخرون، فرجَّحوا البصر على السمع لقوة إدراكه وجزمه بما يدركه، وبُعده من الغلط. وبين الفريقين مباحثاتٌ يطول ذكرها، قد ذكرها ابن قتيبة (٢)


(١) «ح»: «بالأدلة». والمثبت من «م».
(٢) أشار إلى ذلك في «تأويل مشكل القرآن» (ص ٥ - ٦).