للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأبو المعالي الجويني وغيرهما. وفَصْل النِّزاع بينهما أن ما يُدرك بالسمع أعمُّ وأشمل، وما يُدرك بالبصر أتمُّ وأكمل، فهذا له القوة والتمام، وذاك له العموم والإحاطة (١).

والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها كقطر في بحرٍ، ولا سبيل إلى العلم بها إلَّا بخبر الصَّادق، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء، نبَّأهم من هذا الغيب بما يشاء، وأطلعهم منه على ما لم يُطلِع عليه غيرهم، كما قال تعالى: {* مَّا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَلَكِنَّ اَللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: ١٧٩] وقال تعالى: {عَالِمُ اُلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ اِرْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: ٢٦ - ٢٧] وقال تعالى: {اِللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: ٧٣].

فهو سبحانه يصطفي من يُطلعه من أنباء الغيب على ما لم يُطلع عليه غيره، ولذلك سُمِّي نبيًّا ـ من الإنباء وهو الإخبار ـ لأنه مخبَرٌ من جهة الله، ومخبِرٌ عنه، فهو منبَّأٌ ومنبِّئٌ. وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم، بل ولا أكثره.

ولهذا كان أكمل الأُمم علمًا أتباع الرُّسل، وإن كان غيرهم أحذق منهم


(١) وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء التعارض» (٧/ ٣٢٥) وفي «الرد على المنطقيين» (ص ٩٦) ونقله المصنف عنه في «بدائع الفوائد» (١/ ١٢٤). وقد توسَّع المصنف في بيان هذه المسألة في «بدائع الفوائد» (١/ ١٢٣ - ١٣٠، ٣/ ١١٠٦ - ١١٠٨).