للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصل

الطريق الثَّاني في إبطال هذا الأصل أن يُقال: من المعلوم أن دلالة الأدلة اللفظية لا تختصُّ بالقرآن والسُّنَّة؛ بل جميع بني آدم يَدُلُّ بعضُهم بعضًا بالأدلة اللفظية. والإنسان حيوانٌ ناطقٌ، فالنطق ذاتيٌّ له، وهو مدنيٌّ بالطبع، لا يُمكن أن يعيش وَحْدَه كما يعيش الوحش، بل لا يمكنه أن يعيش إلَّا مع بني جِنْسه؛ فلا بد أن يَعرِف بعضُهم مراد بعضٍ ليحصل التَّعاون. فعلَّمهم الحكيم العليم تعريف بعضهم بعضًا مراده بالألفاظ، كما قال تعالى: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (١) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَانَ} [الرحمن: ١ - ٢] وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: ٣٠] وقال: {عَلَّمَ اَلْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ٥]. فكانت حكمة ذلك التَّعليم تعريف مراد المتكلِّم، فلو لم يحصل له المعرفة كان في ذلك إبطالٌ لحكمة الله، وإفسادٌ لمصالح بني آدم، وسَلْبُ الإنسان خاصيَّتَه التي ميَّزه بها على سائر الحيوان.

وهذه [ب ٧٩ أ] الطريق يُستدلُّ بها من وجوهٍ:

أحدها: أن هذا المقصود ضروريٌّ في حياة بني آدم، فلا بد من وجوده، فلو لم تُفِدِ الأدلة اللفظية العلمَ بمراد المتكلِّم لم يعش بنو آدم، واللازم مُنتَفٍ، فالملزوم مثله.

الثَّاني: أنَّا نعلم قطعًا أن جميع الأمم يَعرِف بعضهم مراد بعضٍ بلفظه، ويقطع به، ويتيقَّنه. فقول القائل: «الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقين» قدحٌ في العلوم الضَّرورية التي اشترك النَّاس في العلم بها.

الثَّالث: أن معرفة النَّاس مراد المتكلِّم منهم بكلامه أعظمُ من معرفتهم