للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلًا، وأعظمهم معرفةً، وأتمهم يقينًا؛ وعقلياتُكم ظهرت من جهة رجالٍ فكَّروا وقدَّروا، وظنوا وخَرَصُوا، وتَعِبوا وما أَغْنَوْا، ونَصَبُوا وما أخذوا، وحاموا وما وردوا، ونسجوا فهلهلوا (١)، ومَشَطُوا ففلفلوا (٢). سافروا في دَرَك المطالب العالية على غير الطريق فما ربحوا إلَّا أذى السفر، وبحثوا في البلاد بغير دليلٍ فلم يقفوا للمطلوب على عينٍ ولا أثر.

رَضُوا بالدَّعَاوَى وابْتُلُوا بِخَيَالِهِمْ ... وَخَاضُوا بِحَارَ الْفِكْرِ وَالْقَوْمُ مَا ابْتَلُّوا

فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكانِهِمْ ... وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا

لَهُمْ كُلَّ وَقْتٍ حَيْرَةٌ بَعْدَ حَيْرَةٍ ... وَجَهْلٌ عَلَى جَهْلٍ فَلَا بُورِكَ الْجَهْلُ (٣)

الوجه الرَّابع عشر: أن الأُمة اختلفت ضروبًا من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فنونًا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار، وتفرَّقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها، فصارت أصنافًا وفِرَقًا، كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة؛ فما فَزِعَت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف، ولا إلى عقل يخالف صريح النقل، ولا قالت طائفة من هذه الطوائف: عقولنا [ق ٤٦ أ]


(١) ثوبٌ هَلْهَلٌ: سخيف النسج، وقد هَلْهَل النسَّاج الثوبَ: إذا أرقَّ نَسْجَه وخفَّفه. «الصحاح» (٥/ ١٨٥٢).
(٢) شعر مفلفل: شديد الجعودة. «القاموس المحيط» (ص ١٠٤٤).
(٣) البيتان الأول والثاني في «ديوان ابن الفارض» (ص ١٣٤ - ١٣٥) والبيت الأول فيه:
رَضُوا بالأماني وابتُلوا بحُظوظِهِم ... وخاضوا بحارَ الحبِّ دعوى فما ابتلّوا