والبصر عن إدراك الأصوات، وسائر الحواس عن إدراك المعقولات. فكما أن العقل طورٌ من أطوار الآدمي يحصل فيه عينٌ يبصر بها أنواعًا من المعقولات والحواس معزولة عنها، فالنبوة طورٌ آخر يحصل فيه عينٌ لها نورٌ يظهر في نورها أمورٌ لا يدركها العقل، بل هو معزول عنها كعزل الحواس عن مدارك العقول.
فتكذيب ما يدرك بنور النبوة لعجز العقل عن إدراكه وكونه معزولًا عنه كتكذيب ما يدركه العقل لعجز الحواس عن إدراكه وكونها معزولة عنه، فإن الإنسان كما قال الله عز وجل:{وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل: ٧٨] فهو في أصل الخلقة خُلق خاليًا ساذجًا لا عِلْم له بشيءٍ من المعقولات ولا المحسوسات البتةَ.
فأول ما يُخلق فيه حاسة اللمس، فيدرك بها أجناسًا من الموجودات كالحرارة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها، فاللمس قاصر عن الألوان والأصوات، بل هي كالمعدومة بالنسبة إليه.
ثم يُخلق له البصر فيدرك به الألوان والأشكال والقُرب والبُعد والصِّغَر والكِبَر والطول والقصر والحركة والسكون وغير ذلك. ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات السَّاذجة والنغمات، ثم يترقى في مدارك هذه الحاسة على التدريج حتى يسمع من البُعد ما لم يكن يسمعه قبل ذلك. ويتفاوت النَّاس في قوة هذين الإدراكين وضعفهما تفاوتًا بيِّنًا حتى يدرك الواحد ما يجزم الآخر بكذبه فيه، والمُدْرِك مشاهدٌ له لا يمكنه تكذيب نفسه فيه، وذنبه عند المُكذِّب له أنه اختص بإدراكه دونه.
ثم يُخلق له الذوق فيدرك به تفاضُل الطعوم من الحلاوة والحموضة والمرارة وما بين ذلك ما لم يكن له به شعورٌ قبل ذلك، وكذلك الشم هو