للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بقوةٍ عقليةٍ، وهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويُسمونها القوة القدسية. قالوا: ويتميز النبي عن غيره بقوة التخيل والتخييل، فيتخيل الأمور للعقول في الصور المحسوسة، ويُخيلها إلى النَّاس في قوالب تلك الصور. ويتميز أيضًا بقوة النفس، فيتصرف بقوتها في مواد العلم وعناصره بقلب بعضها إلى بعضٍ. فهذه عندهم خواصُّ النبوة، فالأنبياء عندهم من جنس غيرهم من البشر، ونبواتهم من جنس صنائع النَّاس وسياساتهم ورياضاتهم، حتى قال أقرب هؤلاء إلى الإسلام: «اعلم أن أصول الصناعات أربعة: صنعة التجارة والحدادة والنساجة والسياسة، وأصعبها صنعة السياسة، وأصعب هذه الصناعة صناعة النبوة» (١). هذا كلامه بعينه في كتابه.

فلمَّا كانت النبوة عندهم في هذه المرتبة كانت علومها وأعمالها من جنس علوم البشر وأعمالهم. فالعقل مشتركٌ بينهم وبين كافة العقلاء، فلما جاءت الرسل بما لا تُدركه عقولهم، وليس في قواعدهم ونظرهم ومنطقهم ما يدلُّ عليه؛ قابلوه بالإنكار، وقالوا: قد تعارض العقل وما جئتم به، وإذا تعارض العقل وخبركم فلا سبيل إلى تقديم أخباركم على العقل لأن ذلك يتضمن القدح فيه. فهؤلاء هم الذين عارضوا أولًا بين العقل والوحي، وهم الذين أسسوا هذه القاعدة، ووضعوا هذا البناء؛ إذ كانت علوم الأنبياء وعقولهم عندهم من جنس علومهم وعقولهم، وربما رجَّحوا علم الفيلسوف وعقله، وبعضهم يرجح النبي من وجهٍ، والفيلسوف من وجهٍ.

فهؤلاء إذا عارضوا بين العقل والنقل، ثم قدَّموا العقل على النقل عملوا بمقتضى أصولهم وقواعدهم. أمَّا مَن عرف الرُّسل وآمن بهم، وعلم أن الله


(١) لم أقف على هذا القول.