للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سمَّوْه فاعلًا بألسنتهم، فإنه لا يقوم به عندهم فعلٌ، وفاعلٌ بلا فعلٍ كقائمٍ بلا قيامٍ، وضاربٍ بلا ضربٍ، وعالمٍ بلا علمٍ.

وضمَّ الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفةٌ لكان جسمًا، ولو كان جسمًا لكان حادثًا، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته. فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق الذي أثبتوا بها وجوده، فكانت [ق ٦٤ ب] أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله. وعن هذه الطريق أنكروا علوَّه على عرشه، وتكلُّمه بالقرآن وتكليمه لموسى، ورؤيته بالأبصار في الآخرة، ونزوله إلى سماء الدُّنيا كل ليلة (١)، ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق، وغضبه ذلك اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله (٢)، وجميع ما وصف به نفسه من وصفٍ ذاتيٍّ أو معنويٍّ أو فعليٍّ، فأنكروا وجهه الأعلى، وأنكروا أن له يدين، وأن له سمعًا وبصرًا وحياة، وأنه يفعل شيئًا حقيقةً، وإن سُمِّي فاعلًا فلم يستحق ذلك لفعلٍ قام به، بل فِعْلُه هو عين مفعوله.

وكذلك الطريق التي سلكوها في إثبات النُّبوة لم يثبتوا بها نبوةً في الحقيقة، فإنهم بنوها على مجرد خرق العادة، وهو مشترك بين النَّبي وغيره، وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما يَثلج له الصدر، ولا يحصل به برد اليقين؛ مع أن النُّبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصفٍ وجوديٍّ، بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنَّبي، والتعلق عندهم أمرٌ عدميٌّ، فعادت النُّبوة عندهم إلى أمرٍ عدميٍّ، وقد صرَّحوا بأنها لا ترجع إلى صفةٍ ثبوتيةٍ قائمةٍ بالنَّبي. وأيضًا فحقيقة النُّبوة والرسالة إنباء الله سبحانه وتعالى لرسوله، وأمره بتبليغ كلامه


(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه البخاري (٤٧١٢) ومسلم (١٩٤) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.