للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثَّاني: أن قوله: «أنا خير منه» كذبٌ، ومستنده في ذلك باطلٌ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادةٍ على مادةٍ تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها، وهذا من كمال قدرته سبحانه. ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرُّسل أفضل من الملائكة، ومذهب أهل السُّنَّة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة (١)، وإن كانت مادتهم نورًا، ومادة البشر ترابًا. فالتفضيل ليس بالمواد والأصول، ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرًا وأفضل عند الله ممَّن ليس مثلهم من قريشٍ وبني هاشمٍ.

وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثًا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى، وهي التي أبطلها الله عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: ١٣].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ (٢) الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ،


(١) قال المصنف في «بدائع الفوائد» (٣/ ١١٠٤) عن ابن تيمية: «أنه سُئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عمَّا يُلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة. وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه».
وينظر «مجموع الفتاوى» (٤/ ٣٥٠ - ٣٩٢).
(٢) والعُبية: الكبر والنخوة، يريد بهذا القول ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب والتباهي بها. «غريب الحديث» للخطابي (١/ ٢٩٠). وينظر «تصحيفات المحدثين» للعسكري (١/ ٢٩١) و «الفائق» للزمخشري (٢/ ٣٨٤ - ٣٨٥).