للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير آية الكرسي]

آية الكرسي هي آية التوحيد، فقد ذكر الله سبحانه فيها صفاته العظيمة، وفيها من الأسماء الحسنى: الحي، والقيوم الذي يقوم كل شيء به، وهو قائم على كل شيء سبحانه، وهو الذي يدبر أمر الكون كله سبحانه، يراقب ويحفظ كل شيء، ويشهد على كل شيء، فهو القيوم لا شيء يقوم إلا بالله الحي القيوم سبحانه، وهو القيوم القائم والقاهر فوق عباده سبحانه وتعالى.

قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، فهو الحي الحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء لها سبحانه وتعالى، فقد خلق الله عز وجل الزمان للخلق، جعل لهم الزمان يحد أولهم وآخرهم، وجعل المكان للإنسان يتحيز فيه، والله عز وجل لا يحده زمان ولا مكان سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، قهر كل شيء، وقام على كل شيء.

{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] النوم قد عرفناه، والسنة: هي الشيء اليسير من النوم كالخفقة التي تعتري الإنسان، فالإنسان قد تغلبه عينه وهو يحرس أو وهو واقف في الصلاة إذا طالت الصلاة في قيام الليل.

فهذه السنة شيء يسير من النوم، والله سبحانه وتعالى لا يعتريه نوم ولا سنة من النوم سبحانه وتعالى.

{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٥٥] يملك كل شيء، يملك ما في السموات وما في الأرض.

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] ما أعظم هذه العظمة! أي مخلوق لا يجرؤ أبداً أن يتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يشفع بغير إذنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨] سبحانه وتعالى، ولا يشفع عنده إلا الأنبياء والملائكة والصالحون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه يأتي يوم القيامة ويخر ساجداً لله سبحانه وتعالى، فيتركه ربه ما شاء أن يتركه ساجداً، ثم يأذن الرب الكريم سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع)، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم حامداً ربه سبحانه، شاكراً ربه، ويشفع لمن يشاء الله من خلقه، فهذا النبي الكريم أكرم خلق الله صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع ابتداءً إلى أن يأذن الله له حين يقول: (يا محمد! ارفع رأسك)، ويأتي إلى عرش الرحمن فيخر ساجداً حتى يؤذن له.

فمن يجرؤ أن يأتي إلى الله بغير إذن من الله سبحانه ويقول: أنا أشفع وأنا أدافع عن فلان؟ لا أحد يجرؤ على ذلك.

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥] هذه عظمة الله سبحانه، وجبروت الله وملكوته، يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أحاط بكل شيء علماً صغر وقل أو كبر وجل، كل شيء يعلمه الله سبحانه علم إحاطة، يعلم أوله وآخره وكيف كان، وكل شيء يصير يعلمه الله، فمن عظمة الله أنه لا يجرؤ أحد أن يشفع إلا أن يأذن الله سبحانه، وعلم الله العظيم يدل على عظمته، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما أمامك وما خلفك، في أي زمان ومكان، ما أضمرته في نفسك وما أظهرته، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلم ما بين أيدي كل خلقه، كل شيء يعلم الله عز وجل ما بداخله وخارجه، ما أمامه وخلفه في الزمان وفي المكان، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى.

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:٢٥٥]، فانظر إلى سعة علمه سبحانه، وإلى حقارة علم المخلوقين، إذا اجتمع الخلق كلهم لا يقدرون أن يحيطوا بشيء من علم الله، فهو سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كل شيء يعلمه الله عز وجل، وهذه المخلوقات كلها لا تحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى.

{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥] فما شاء أن يعلمهم به أعلمهم به، وقد يظن إنسان أنه أحاط علماً بالشيء، فإذا بالرب سبحانه يظهر جهل هذا القائل، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهل نفسه، فإذا استكبر وقال: قد علمنا ووصلنا، فسيصل إلى أن يكون أجهل خلق الله سبحانه وتعالى.

قبل مائة سنة كان بعض كبار الأطباء يقولون: قد اكتشفنا ولم نترك شيئاً لمن يأتي بعدنا في الطب، فالذي قال هذا كان أحمق، فانظر إلى العلوم الموجودة الآن في علم الطب الحديث، فالعلم الآن فيه أشياء حديثة جداً جداً لم يكونوا يعرفونها، فقد اكتشفوا الميكروبات والفيروسات والأشياء الصغيرة التي لا ترى، والأشياء التي ترى آثارها دون أن ترى، فأين علم الطبيب القديم الذي كان يقول: اكتشفنا كل شيء؟! هذا جاهل يضحكون عليه الآن بسبب قوله الذي قاله.

فالإنسان حين يقول: أحطت بشيء علماً جاهل، فالله عز وجل لا يطلع أحداً على كل شيء، وقد قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]، فوق كل إنسان عالم علّامة، وفوقه العليم الخبير سبحانه وتعالى، كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦] أي: الله فوق كل عالم سبحانه وتعالى.

فالإنسان إذا وصل في العلم إلى شيء فيرد العلم إلى عالمه، ويقول: هذا ما أعلمه وأجهل الكثير.