[ذكر دعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) في آخر المجلس]
حديث آخر رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات)، يعني: قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يقول -يعني: كثيراً- في مجالسه التي كان يجلسها: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك)، هذا لفظ الترمذي، والذي ذكره الإمام النووي هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك)، ولعلها في نسخة أخرى عند الإمام النووي رحمه الله، ثم قال: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك).
فهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، إذا جعل الله عز وجل في قلبك الخشية حال بينك وبين معاصيه سبحانه وتعالى فقوله: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، يعني: أعطنا من الخشية، وقد يعطيك خشية لا تقدر معها على الصبر على شيء قد يكون؛ ولذلك المعنى: أعطنا خشية نقدر عليها، وقد يجعل الله عز وجل في قلب العبد خشية حتى يكون مرعوباً من الله، ويشتد خوفه من الله حتى ييئس من رحمة الله سبحانه وتعالى، فهنا يقول: أعطنا من الخشية ما يحول بيننا وبين المعاصي، أي: الخشية التي تمنعنا من المعاصي، وليس الخشية التي تيئسنا من روح الله ورحمته تبارك وتعالى.
قوله: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) أعطنا الطاعة التي تبلغنا جنتك، فيفتح لك أبواب الطاعة فتطيع الله سبحانه وتعالى في كل أمر من الأمور الطاعة التي تبلغك جنته.
ثم قال: (ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا)، ذكر الإمام النووي في اللفظ هنا: (ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا)، وهو نفس المعنى، اليقين: قوة الإيمان الذي هو التصديق والثقة بالله سبحانه وتعالى، فيمتلئ قلب العبد باليقين والثقة بالله سبحانه، وبالإيمان فإذا به تهون عليه الدنيا وتهون عليه مصيبته فيها.
والنبي صلى الله عليه وسلم أصيب بمصيبات في هذه الدنيا! وابتلي صلوات الله وسلامه عليه بمصائب من هذه الدنيا وصبر عليها صلوات الله وسلامه عليه! انظر كيف مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته في العام نفسه الذي مات فيه عمه! فهذا بلاء شديد جداً على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله والناس يكذبونه.
والله لو كان الناس مصدقين للنبي صلى الله عليه وسلم ويواسونه لكان سهل عليه الأمر، أما أن يكذبه كل الناس فهذا لا يحتمله إنسان ثم إن عمه الذي كان يدافع عنه مات كافراً فهذه مصيبة شديدة جداً على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وفي العام نفسه ماتت زوجته خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها فأي مصيبة أفظع من هذه المصيبة؟! وإذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرج من مكة إلى الطائف وهو مهموم يبحث عن أحد هناك يستقبله صلى الله عليه وسلم ويقبل دعوته ويأمن معه صلوات الله وسلامه عليه؛ فيستقبله أوباش القوم وسفلتهم يقذفونه بالحجارة حتى جرحوه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك صبر صبراً عظيماً يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى، ويأتي إليه ملك الجبال ويقول له وهو في كرب عظيم صلوات الله وسلامه عليه: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)، إذا أردت أن أطبق عليهم جبال مكة فعلت، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً).
فكافأه الله سبحانه تبارك وتعالى على هذا الصبر بالإسراء والمعراج، فعرج به صلوات الله وسلامه عليه إلى السماء ليزداد طمأنينة وإيماناً مع إيمانه صلوات الله وسلامه عليه، ويرجع إلى هذه الأرض حيث يصبر على ابتلاء الله سبحانه.
ويهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه ويموت أولاده الواحد وراء الآخر، ويأتي الأعداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقاتلهم ويجاهد في سبيل الله، ويجرح صلوات الله وسلامه عليه ويصبر، فهذه مصائب من مصائب الدنيا.
وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا).
فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا، فالإنسان عندما يكون له سمعه وبصره وقوته فهو في عافية عظيمة من الله سبحانه وتعالى، فلو فقد الإنسان سمعه فسيقول: أصرف مالي كله على العلاج من أجل أن يرجع لي السمع مرة ثانية.
والبصر كذلك والقوة والعافية، فهو يقول: متعنا بهذه الأشياء، حتى نعبدك سبحانك فيكون المعنى: أعطني السمع لأسمع أوامرك وأستمع إلى كتابك وأستمع إلى ما تريد مني أن أسمعه، كذلك البصر! فأنظر في كتابك وأنظر في أحوال المسلمين وأنظر فيما ينفعني في ديني ودنياي.
ثم قال: (واجعله الوارث منا)، وكأن هذه الأشياء بمقام الورثة من الإنسان، كأنه يقول: اجعل ما تأخذه منا عند موتنا وتسلبنا هذه الأشياء عند موتنا بمقام الوارث أنها تظل معنا حتى تتوفانا يا ربنا، واجعله الوارث منا.
قوله: (واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا)، لا تجعل الثأر على المظلومين ولا على المطيعين ولكن اجعل الثأر والبأس على الظلمة لنأخذ بحق الدين منهم.
قوله: (وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) كل مصيبة تهون إلا أن تكون في الدين فالمصيبة في الدين فظيعة وعظيمة، والإنسان الذي يبتلى في دينه ويضيع دينه لا يدري لعله يموت على ذلك فيصير إلى النار أبداً والعياذ بالله.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا)، فالله هو الذي يجعل حب الدنيا في القلب، وهو الذي ينزع ذلك من قلبه، فهو يدعو ربه سبحانه ألا يجعل حب الدنيا في قلبه: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولكن أكبر الهم هو هم الدين، فالذي يهمك ويشغلك ويجعلك تفكر ليل نهار في كيفية إقامة هذا الدين، وفي كيفية طاعة الله سبحانه، فحين يكون هذا هو أكبر الهم عندك، فإن الله يهون عليك كل هم سواه.
قوله: (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يوجد أناس علمهم لا يتجاوز الدنيا، يعرف الحساب يعرف العربي يعرف كذا يعرف كذا ولا يتجاوز علمه ذلك، فلا يذكر الموت وليس على باله، وليس على باله الآخرة، وليس على باله الحساب والجزاء والجنة والنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجعل الهم الذي نحن فيه هو هم الدنيا: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولا تكون هذه الدنيا مبلغ علمنا، تجد بعض الناس يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى ولا يفهم ما الذي يعبده، يعبد صنماً! يعبد وثناً! وهو ربما في الدنيا معه شهادة دكتوراه ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور دينه! فهذا دكتور سافر ليأخذ الدكتوراه من اليابان، ولما وصل هناك وجد الناس يذهبون إلى المعابد ليتعبدوا، أناس كبار وأساتذة ودكاترة في الجامعة يأخذون معهم أجراساً وهم ذاهبون إلى المعبد، فسأل أحدهم: ماذا تعمل بهذا الجرس؟ فقال: أذهب لأوقض الإله في المعبد! أي إله هذا الذي ستوقظه؟! يعني: الإله نائم لا يدري ماذا تعمل فأنت توقظه في المعبد؟! ومع هذا هو لا يريد أن يفكر في هذا الشيء.
فهو انشغل في أمر الدنيا ووصل إلى مراحل عظيمة جداً في علوم الدنيا كعلوم الطب وعلوم التكنولوجيا والصناعات وغيرها، لذلك فهو لا يفكر في أمر الدين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)، ولكن يكون هم الإنسان الآخرة، وليس معناه أنه لا يطلب الدنيا، بل الله يقول: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧] ويقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، فالمؤمنون يلزمهم أن يأخذوا بأسباب التقدم والنهضة في الدنيا، وأسباب إقامة هذا الدين العظيم، ولكن لا يغفل العبد عن دين الله سبحانه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)، لا تجعل علينا والياً ممن يعادينا، أو ممن يداهن الأعداء؛ لأنه إذا تسلط على المؤمنين وتولى عليهم من يرحمهم فهذا حسن، أما إذا تولى أمورهم من لا يرحمهم فهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى بما جنت أيدي الناس.
وعلى هذا فيستحب للمؤمن إذا قام من مجلسه أن يقول هذه الأذكار: الذكر الأول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
الذكر الثاني: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).