[شرح حديث: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده)]
عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة قال فيها: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده) عليه الصلاة والسلام هذه قصة ساقها الإمام أبو داود في سننه، والقصة إسنادها فيه ضعف، ولكن جملة الروايات تعطي المعنى المقصود أنه يجوز تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل الصلاح ومن أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولكن لا يكون عادة؛ لأنه لم تكن عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يقبلون يده ورجله عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا حدث على وجه الندرة، فإذا كان فليكن مثل ذلك.
هنا الحديث رواه أبو داود والترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد، ويزيد بن أبي زياد ضعيف، وهو أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه (أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص) يعني: يذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في غزوة من الغزوات في سرية من السرايا فحاص الناس حيصة كأن الأعداء كانوا كثيرين والصحابة كانوا قلة، فحاص الناس أي: رجعوا وهربوا، قال: وكنت فيمن هربت مع الذي هربوا، فـ ابن عمر رضي الله عنه هذا الرجل الصحابي الفاضل لم يقل: الناس هربوا وأنا ثبت، لا، حاشا له رضي الله عنه أن يكذب، ولكن يخبر ويقول: حاص الناس فكلنا هربنا ورجعنا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن وهم في الطريق راجعين قال: (فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:١٦] فقالوا: ندخل المدينة ونختبئ فيها، ننظر في أمرنا، قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون) قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن هربنا وجئنا تائبين لله عز وجل، نحن الفرارون، فماذا كان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ قال: (فأقبل إلينا فقال: لا، بل أنتم العكارون) يعني: أنتم لستم فرارين بل أنتم العكارون، ما هو الفرق بين الفرار والكرار والعكار، الفرار هو الذي فر وهرب من المعركة، والكرار هو الذي يقدم على العدو وهو شجاع، أما العكار فهو الذي يقدم ثم يخاف ويرجع ثم يكر مرة ثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم الأمل بأنهم سيرجعون ويقاتلون مرة ثانية، فقال: (بل أنتم العكارون) فإذاً: العكار هو الذي قد يولي دبره في المعركة ثم يرجع فيكر مرة أخرى، هذا العكار فقال: (لا، بل أنتم العكارون، ففرحوا بذلك بعد ما كادوا ييئسون، قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة كل مسلم) فهذا الحديث فيه بيان أنهم قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث أخرى في هذا المعنى لا يخلو بعضها من مقال، ولكن بمجموعها تفيد جواز تقبيل اليد، ومنها: ما جاء عن أبي لبابة وكعب بن مالك أنهما لما تابا وتاب الله عز وجل عليهما، ذهب أبو لبابة فقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كعب بن مالك وصاحباه ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم وقبلا يده.
وأيضاً جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم فعل مع بعض مثل ذلك، منهم: أبو عبيدة فإنه لما قدم على عمر قبل يد عمر رضي الله تعالى عنه، وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة.
كذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه قبل يد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ زيد بن ثابت الذي كان يكتب القرآن العظيم رضي الله تعالى عنه، وهذا عبد الله بن عباس الذي كان يفسر القرآن العظيم كلاهما عالم من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل زيد وهو أكبر من ابن عباس يد ابن عباس رضي الله عنهما، والسبب في ذلك أن زيداً أراد أن يركب الفرس فـ عبد الله بن عباس نظر إلى زيد فقال في نفسه: هذا كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر مني سناً، فتقدم إليه ابن عباس وأمسك بركابه من أجل أن يضع زيد رجله في الركاب، هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما، فلما فعل ذلك إذا بـ زيد يأخذ يده ويقبلها رضي الله تعالى عنهما، فهذا تواضع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض.
وجاءت آثار كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري بهذا المعنى: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك معه صلى الله عليه وسلم، فقبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم، فقد جاء عن علي أنه قبل يد العباس عمه رضي الله تعالى عنهما، وجاء عن ثابت أنه قبل يد أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وجاء عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لـ ابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فناولنيها فقبلتها.
يقول الإمام النووي رحمه الله: تقبيل الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك لا يكره، بل يستحب إذا كان لأمر من الأمور الدينية، فإن كان لغناه أو لشوكته أو لجاهه عند أهل الدنيا فمكروه كراهةً شديدة.
وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز إلا إذا كان على وجه التقرب إلى الله عز وجل.
لكن لا يكون على وجه العادة، كلما قابل واحداً من أهل العلم أو من كبار السن قبله، لا، يجب ألا يكون مثل النصارى، ولأنه قد يقوم الخسيس ويقابلهم ويمد لهم يده ويقول: قبلوا يدي.
إذاً: يجب ألا يكون هذا منتشراً بين المسلمين، ولكن الذي كان لو عددنا هذه القصص بأنها قليلة بجنب عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظل مع الصحابة ثلاث وعشرين سنة في الدعوة إلى الله عز وجل، فلو كان هذا يحدث كل يوم لجاءت أحاديث كثيرة في ذلك، ولكن الأحاديث منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فعلى ذلك يقول أهل العلم: إن ذلك يجوز، ولكن لا يكون عادة.
إذاً: الإنسان يقبل يد أمه وأبيه هذا جائز، ويقبل يد من يعلمه، لكن على وجه الندرة، ولا تزكوا أنفسكم، فالله عز وجل أعلم بمن اتقى.