[ما جاء في فضل الإصلاح بين الناس في القرآن]
باب آخر من كتاب رياض الصالحين، وهو الباب الحادي والثلاثون من هذا الكتاب القيم العظيم، وفيه ذكر الإمام النووي رحمه الله الإصلاح بين الناس.
والإنسان المؤمن مطلوب منه أن يصلح بين الناس قدر استطاعته، وربنا سبحانه ذكر الصلح والإصلاح في الكتاب، فذكر لنا الإمام النووي الآيات التي تفيد هذا المعنى وذكر لنا أحاديث تتعلق به أيضاً.
منها: قوله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤].
والنجوى: حديث السر.
إنسان يتناجى مع صاحبه، يعني: يكلمه سراً.
فأكثر كلام السر بين الناس فيه الشر والبعد عن الخير، وفيه الغيبة، وفيه النميمة، وفيه الكذب، ولكن بعض هذا الكلام يكون فيه الخير؛ ولذلك استثناه ربنا تبارك وتعالى، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:١١٤] أي: نجوى الناس فيما بينهم لا خير فيها إلا في حالات: {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] بشرط: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١١٤].
والإنسان حين يناجي صاحبه يهمس في أذنه ويكلمه في السر، وأحاديث السر غالباً ما يكون من ورائها الأذى، خاصة إذا كان اثنان يتكلمان والثالث معهما فإذا بالثالث يحزن، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (لا يتناج اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)، فإذا كانوا ثلاثة فلا يحل لأحدهم أن يقول للآخر: تعال أكلمك، حتى لا يظن الثالث أنهما يتكلمان عليه.
علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكمة من وراء منع تناجي الاثنين في حضرة الثالث أن ذلك يحزن هذا الإنسان، وقد يدفعه لأن يسيء الظن فيك وفي صاحبك، فلذلك لا تفعل ولا تحاول أن تتكلم في السر إلا في حالات محددة، كما قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤]: الحالة الأولى: (أمر بصدقة) يعني: إنسان وجد إنساناً فقيراً محتاجاً ونزلت به كارثة فأراد أن يساعده، فيقول لصاحبه سراً: تعال نساعد فلاناً بكذا، فهذا خير التناجي.
الحالة الثانية: (أو أمر بمعروف) يعني: يسر له أنه أخطأ في الشرع مثلاً فينصحه من غير فضيحة ومن غير كلام كثير ومن غير إزعاج له أو لغيره، ولكن يكلمه بصورة النصيحة الطيبة التي تدفعه لأن يعمل خيراً ويتجنب الشر، فيكون هنا قد أمر بمعروف في التناجي على وجه السر حتى لا يؤذيه ولا يفضحه.
الحالة الثالثة: (أو إصلاح بين الناس) اثنان بينهما شر وكلٌ منهما يعرض عن صاحبه، فيجوز لك أن تقول لأحدهما: إن أخاك يحبك في الله، اتق الله وسلم على أخيك، ويكلم الآخر في السر يقول: إن أخاك يحبك، سلم عليه، خيركم الذي يبدأ بالسلام، فهذا يصلح بين الناس بهذا الكلام الطيب، ويجعل الاثنين يقبل بعضهم على بعض.
أما غير ذلك فلا خير في النجوى، والتناجي -أي: كلام السر- مزعج ومؤذ، والذي يتعود على هذا الشيء يعتاد على إيذاء الغير.
قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] والقيد قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:١١٤] أي: يأمر بالمعروف، ويأمر بالصدقة، ويصلح بين الناس ابتغاء وجه الله سبحانه، فهذا له الفوز العظيم والأجر الكبير من الله عز وجل، قال تعالى: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١١٤].
أيضاً قال الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:١] يعني: الشيء الموجود فيما بينكم، تقول: خذ ذا إنائك، يعني: ما هو داخل إنائك وهو الشراب.
وذات البين، يعني: الشيء الذي هو داخل بينك وبين صاحبك، والمعنى: الخصومة التي بينكم، والشيء المنكر الذي بينكم، أصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠].
وأخوة الإيمان أعظم بكثير من أخوة النسب، فإن اجتمعا كان هذا خيراً عظيماً، فالأخ يحب أخاه ويحب له الخير، وينفعه حياً وميتاً، ينفعه في الحياة بالمعونة وبالنصيحة، وينفعه بعد الموت بالدعاء، ويوم القيامة بالشفاعة إذا كان هذا في الجنة وذاك في النار، فيشفع له فيخرجه ويأخذ بيده من النار ويدخله الجنة.
فهنا نفع عظيم جداً في الأخوة بين المؤمنين إذا تآخوا ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فلذلك يذكرنا ربنا بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠] أي: ليسوا أعداء، ليسوا متباعدين.