[الزهد في الدنيا وما جاء فيه]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر.
قال الله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:٢٤].
عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافقوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) متفق عليه].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل الزهد في الدنيا، ويذكر الحث على التقلل منها وفضل الفقر.
والزهد في الدنيا هو أن يكون الإنسان متقللاً من الدنيا، فيأخذ من الدنيا حاجته، ولا يطمع فيها؛ ولا يكثر من الدنيا، وإن جاءه من الدنيا الكثير عمل فيه برضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكنه يقلل الطمع فيها، فلا يكون طماعاً كلما جاءه شيء طلب المزيد من الدنيا مستكثراً بها.
جاء في الزهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالزهد فيما بأيدي الناس فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس).
فإذا كنت تريد حب الله وحب الناس فازهد في الدنيا يحبك الله؛ لأن معاصي الإنسان وشهواته وشبهاته تكون نتيجة للطمع في هذه الدنيا، بحيث يشتهيها فيطلب ما فيها من حلال، فإن عدم وسيلة في نظره من الحلال لجأ إلى الحرام، فأخذ الدنيا بطمع فيها، فإذا قطع الأمل عن الدنيا وقطع الطمع فيها وزهد فيها أحبه الله سبحانه، وقد وتأتيه الدنيا وهي كارهة، فالمهم أن يرضي ربه سبحانه وتعالى.
والإنسان إذا أراد محبة الناس فعليه أن ينظر في الذي يجلب عداوة الناس، والذي يجلب عداوة الناس أن تطلب ما عندهم، فالإنسان يغضب حين تطلب منه، والله يرضى حين تطلب منه، فاطلب من الله عز وجل، ولا تكن طالباً لما في أيدي الناس، واجعل لك قاعدة في حياتك، وهو أنك لا تسأل أحداً شيئاً طالما كنت قادراً على عمله بنفسك، فلا تطلب من أحد شيئاً.
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يزهدوا في الدنيا وأن يزهدوا فيما في أيدي الناس، فهذا حكيم بن حزام طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فأعطاه، ثم طلب فأعطاه، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع) فلما سمع النصيحة أقسم للنبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا يرزأ أحداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا شيئاً، أي أنه لا يطلب من أحد من هذه الدنيا شيئاً.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يأتيه المال فيعطي الناس ويعطي حكيماً فيرفض أن يأخذه، وجاء عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر رضي الله عنهما، فأراد أن يعطيه نصيبه من المال فرفضه، وقال: إنه أقسم ألا يرزأ أحد شيئاً.
ورفض أن يأخذ ماله، فكان عمر يشهد الناس على حكيم بن حزام لكونه لا يأخذ المال الذي هو من حقه.
فالغرض أن الإنسان إذا زهد في الدنيا أتته الدنيا وهي راغمة، ولكن الإنسان قد يسأل لخوفه أن يفتقر، أو لخوفه أن يضيع منه المال، أو لخوفه أن تضيع منه الفرصة، أما إذا علم أن الله عز وجل هو الرزاق، وأن خزائنه لا تنفد أبداً فإنه يكتفي بما أعطاه الله، ولا يتشوف إلى ما في أيدي الناس، والذي يسأل الناس تكثرا كالذي يأكل ولا يشبع، فكلما طلب ازداد نهماً وحرصاً على الدنيا، فازداد بعداً عن الله سبحانه وعن حب الناس، فازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.