[السؤال في القبر]
ويسأل الإنسان في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي جاء فيكم؟ والسؤال صعب جداً؛ لأن الإنسان وهو في قبره وقد انصرف الناس من حوله، يأتيه ملكان، فينهرانه بشدة، فمثلاً: لو كنت واقفاً في الطريق وصاح أحد عليك بصوت عال فإنك تفزع وتخاف وأنت قوي قادر، فما بالك وأنت داخل القبر، مربوط في كفنك، لا تعرف ماذا ستفعل؟! نسأل الله العفو والعافية.
فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، أصواتهما وصراخهما عال وشديد جداً، لا يسمعهما أحد إلا هذا المتوفى، فينهرانه ويجلسانه، ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا ينفع الإنسان إلا ما كان عليه في الدنيا من عبادة الله والخوف منه سبحانه، وهنا يثبت الله الذي يريد أن يثبته، فلا أحد معك في قبرك وإن أقصى شيء يسمعه الإنسان المتوفى هو قرع النعال، وهي حالة من حالات الفزع التي تكون على الإنسان، فقد أصبح لوحده الآن، وهذا فيه إفزاع للإنسان، فإنه وهو في قبره لا أحد معه، فكل الناس رجعوا وتركوه، فإذا كان عبداً مؤمناً فإن الله يثبته في هذه الحالة.
فيجيب قائلاً: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيسألانه: ما معرفتك به؟ فيجيب بقوله: جاءنا بالبينات فصدقت وآمنت، أي: أعطاني كتاباً من عند الله سبحانه، أعطانا سنته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتى بآيات معجزات، فعرفنا أنه رسول الله، فهو ثابت يجيب لا يتزعزع ولا يتزلزل فينجح في الامتحان، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:٢٧]، فإذاً يضل الإنسان إذا كان ظالماً وفاجراً وشقياً كافراً في هذه الدنيا، فإذا سأله الملكان في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري، لا أدري، فيزيغ، ولعله في الدنيا كان يقول: لا إله إلا الله، ولكنه لم يثبت عليها في قبره، فقد ضاعت منه هذه الكلمة؛ لأن الذنوب ثقلت لسانه في وقت وفاته، فلم يقدر على هذه الكلمة، ثم لما كان في قبره فإن ذنوبه واستهزاؤه بالمؤمنين، أضاع عن خاطره ذلك، في موقف فيه الفزع، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ولا دريت، دعاء عليه، أي: إن شاء الله ما دريت، ولا تليت، أي: ما قرأت القرآن قبل ذلك، ولا تعلمت آداب هذه الشريعة، فقد كنت غافلاً، ولاعباً، وماشياً في الدنيا كأهل الباطل شمالاً ويميناً، ناسياً ربك تبارك وتعالى، والآن ننساك ونتركك وحيداً في قبرك.
فينادي مناد: أن كذب عبدي.
ويقال له: إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ألا تعرف النبي صلى الله عليه وسلم؟!! فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت، أي: قلدت الناس، أي: أن الناس كانوا يقولون شيئاً، فقلته، فقلدت الناس، عملت مثل ما عمل الناس.
وكثير من الناس لا يعرف أنه قال: لا إله إلا الله، أو لا يذكر الله إلا عندما يتعارك مع الناس، فيرفع صوته، ويقول: لا إله إلا الله، وهو يتعارك، أما وهو طبيعي فلا يذكر الله، بل ينساه سبحانه وتعالى، وعندما يحب أن يتعجب يقول: سبحان الله، لا أعرف ماذا كذا وكذا، فيقولها على وجه التعجب والإنكار أما أن يجلس يذكر الله سبحانه وتعالى خاشعاً له، متأدباً معه فلا يفعل ذلك.
فإذا كان هذا الإنسان الذي في قبره قد نسي الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وكان فاجراً شقياً، فإنه يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته يعني: كان مع الناس يقول كما يقولون: لا إله إلا الله فقال: كما قال الناس، فلم ينفعه ذلك في قبره، وإذا به يسمع قائلاً يقول: افتحوا له باباً إلى النار، وأروه منزله من النار، وافرشوا له لوحين من النار والعياذ بالله، فيصير القبر عليه حفرة من حفر النيران نسأل الله العفو والعافية.
ولذلك فعندما تدعو لميت فاستحضر هذا كله، وأنه مسكين، قد ذهب إلى ربه، فيحتاج إلى الدعاء، فادع له بالتثبيت، وادع له بالمغفرة.
في نهاية هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم! فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم).
من الأحاديث التي جاءت في ذلك: ما روى الحاكم وقال: صحيح، وإن كان في إسناده ضعف، عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات.
وروى البيهقي بإسناد صحيح فيه فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين، وساقه الإمام النووي من رواية الحاكم ولكنها بإسناد ضعيف، ولكن ورد مثلها، ورواها البيهقي بإسناد صحيح، وفيه: أن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة، كقدر ما بين التكبيرتين، يعني: كأن كثيراً منهم كانوا يصلون فإذا أتوا بالتكبيرة الرابعة لا يدعون، وإنما يسلمون فوراً فهو قام مثلما قام قبلها في الدعاء الذي في التكبيرة الثالثة، يستغفر ويدعو لها.
ثم قال: بعدما جلس فترة، أي: إن راوي الحديث يقول: كبر أربعاً، فمكث ساعة حتى ظننت أنه سيكبر خمساً، ثم سلم عن يمين وعن شمال، وكلمة: ساعة بمعنى: لحظة، أي: شيئاً من الزمن، وليس معنى الساعة ستين دقيقة، ولكن المقصد منه لحظة، فهو وقف قليلاً، أي: فترة، يدعو للميتة فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ أي: إنك بعد التكبيرة الرابعة وقفت تدعو أيضاً، كأنهم نسوا هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كثيرون لا يفعلونه فقد كانوا يدعون بعد التكبيرة الثالثة، وأما بعد الرابعة فيسلمون فوراً، فلما قالوا له ذلك قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.