[استحباب تبشير المحتضر برحمة الله تعالى وتذكيره بصالح عمله]
ومن الأحاديث في البشارة ما ذكره ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت، وعمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه كان من الأذكياء ومن الفطناء في الجاهلية وفي الإسلام.
ولولا ذكاؤه ما أرسله الكفار إلى النجاشي ليأتي بالمسلمين المهاجرين هنالك، وقد كاد للمسلمين كيداً حتى إن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي كان معه خشي عليهم، وقال: إن بيننا وبينهم أرحاماً، فالشر الذي غلب عليه في الجاهلية جعله يريد أن يوقع بين النجاشي وبين المسلمين، وكاد يفعل، لولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى منع حصول ذلك بإيمان النجاشي أما البطارقة فرفضوا ما يقوله المسلمون، وذلك أن عمرواً قال: هؤلاء يقولون: إن عيسى ليس الإله.
فابعث إليهم واسألهم.
فلما أتى بهم وسألهم خاف المسلمون، ومع خوفهم لم يقولوا إلا الحق، فقالوا: المسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول.
فقالوا كما قال الله عز وجل وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فصدقهم النجاشي، ونخرت البطارقة، ولم يعجبهم ذلك، فقال: وإن نخرتم، هو عيسى بن مريم كما قال هؤلاء، وإن هؤلاء على الحق.
ثم رجع عمرو بن العاص، وبعد سنين مَنَّ الله عز وجل عليه فأسلم، وبعدما أسلم شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ولأخيه بالإيمان فقال: (عمرو بن العاص وأخوه مؤمنان)، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تولى إمارات، وكان أميراً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعد ذلك جاءته الوفاة، فلما حضرته الوفاة بكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا.
فهنا يستحب إذا كان الإنسان في سياقة الموت أن يبشره من حوله، حتى يقدم على ربه وهو يحسن الظن به سبحانه وتعالى.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يبشر أباه بقوله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم بشرك بكذا، وبشرك بكذا.
قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
أي: أفضل شيء أعددناه لهذا اليوم كلمة التوحيد، والشهادة لله عز وجل بأنه الإله وحده.
ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث يذكر عن نفسه أن أحواله كانت ثلاثة أحوال: قال: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني - يعني: في الجاهلية -، ولا شيء أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فانظر إليه في الجاهلية! كان يتمنى أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك.
فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قال: قلت: أن يغفر لي أي: إني عملت مصائب من قبل، فشرطي لأبايعك على الإسلام أن يغفر الله تعالى لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)، وهنا فرح بذلك وبايع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني من إجلاله.
فانظر إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم! فكان لا يستطيع النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يطيق هذا الشيء، وهو من هو رضي الله تبارك وتعالى عنه في جاهليته وإسلامه؟ قال: فلو سئلت أن أصفه ما أطقت.
أي: لو أن أحداً قال: صف لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني لا أطيق أن أصفه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من شدة حيائه وإجلاله له، فما كان يطيل النظر في وجهه عليه الصلاة والسلام.
قال: لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
إذاً: ما الذي حصل؟ قال: ثم ولينا أشياء - يعني الإمارة ومفاسدها - ما أدري ما حالي فيها! أي: عملنا أشياء ونحن أمراء اجتهاداً، وظننا ذلك الصواب، فقد يكون هو الصواب وقد لا يكون هو الصواب، والآن جاء وقت الندم، فما أدري ما حالي فيها.
قال: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور يعني: لا تتركوني وتذهبوا بسرعة، ولكن اصبروا، وقفوا عند القبر وادعوا لي قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، أي: بمقدار ذبحكم جملاً وتقسيمكم لحمه، قال: حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي.
ومن السنة أن الإنسان يقف على قبر المتوفى زمناً قل أو كثر يدعو فيه لهذا المتوفى، ويكون الدعاء في السر، لا كما يصنع اليوم عند المقابر، حيث تجد أحدهم يدعو والناس يؤمنون حوله؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وإنما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على القبر ويقول: (سلوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)، ولو كان يدعو والصحابة يؤمنون لورد عنه أنه كان يقول: اللهم ثبته وهم يقولون: آمين.
ولكن هذا لم يرد.
والغرض من الحديث بيان أن المؤمن يحب البشارة وتعجبه، ولو عند الوفاة، فهي تثبته وتطمئنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المحسنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل - اللهم - وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.