[ذكر قصة قيلة بنت مخرمة في دخولها على النبي وهو جالس القرفصاء برواية أحمد من حديث الحارث البكري]
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث الحارث بن حسان البكري في قصة طويلة فيقول الحارث:(خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها) هذا الرجل خرج يشكو عاملاً للنبي صلى الله عليه وسلم عنده، وهذا العامل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حدث بينه وبينهم شيء، فهذا الرجل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم قال:(فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه؟) فالعجوز كانت من بني تميم وهو من قوم أعداء لبني تميم، ولكنه أشفق على المرأة، وأنها كانت تريد أن تذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما من أحد من قومها يذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله) يعني: لما وصل الحارث وجد المسجد قد غص بأهله فلما سأل عن ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث بعثاً مع عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال:(فدخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فاستأذنت عليه فأذن لي) دخل الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حصل بينك وبين بني تميم شيء فقال: (نعم.
وكانت لنا الدبرة عليهم) يعني: حصل بيننا وبينهم حرب ونحن الذين غلبنا قال: (ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم) فهو عمل خيراً في العجوز التي من بني تميم لما أرادت أن تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء)، والدهناء أرض معشبة فيها مرعى للإبل ويحتاج إليها الجميع، فهو يقول: اجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً يمنعهم من أن يعتدوا علينا أو نعتدي عليهم، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لم يعرف أرض الدهناء وظنها أرضاً فيها رمال ولذلك وافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكانت العجوز قد دخلت وسمعت هذا الكلام، قال:(فحميت العجوز واستوفزت) يعني: هاجت وحميت على هذا الذي قاله فقالت: (يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟) يعني: كيف يفعل الناس إذا استفرد هذا وقومه بالأرض المعشبة.
فقال:(يا رسول الله! إنما مثلي ما قال الأول: معزاء حملت حتفها)، وهذه قصة معروفة عند العرب، وهي أن رجلاً كان معه معزاء وكان يمشي في الطريق ويفكر ماذا يعمل بتلك المعزاء فإذا بها تحفر في الأرض وأخرجت سكيناً فأخذها وذبحها بها، فالرجل يقول: مثلي كمثل هذه المعزاء، فقال:(حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد)، وهنا يظهر أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه حيث كان يعرف قصة وافد عاد لكنه سأله عن قصة وافد عاد، ومن أدب المجلس أن الإنسان إذا سمع من آخر حديثاً وهو يعرفه فلا يقاطعه ويخبره أنه يعرفه، قال:(هيه، وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه، قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيلة فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً) وعاد هؤلاء عصوا الله سبحانه، وكذبوا رسول الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا بالله سبحانه يتوعدهم بالعذاب، ويأتي هذا العذاب من حيث لا يشعرون، وكان عذابهم بأن منع الله عز وجل عنهم المطر فاشتد الحر عليهم واحتاجوا للماء، وكانت العادة عندهم أن يرسلوا إلى أرض مكة من يدعو الله هناك فأرسلوا وافداً لهم يقال له: قيل فمر بملك من الملوك واسمه معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان وبعد ذلك تذكر مهمته وخرج إلى جبال تهامة بالحجاز فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه.
وهذا المكان كان له حرمة عند عاد وغيرهم، وهذا قبل إبراهيم بكثير، فموضع البيت كان له حرمة، ولكن الذي رفع قواعد البيت هو إبراهيم بعد ذلك الحادث بزمان طويل، فالرجل يقول: أنا ما جئت لمريض، ولا جئت من أجل أسير، لكن أنا جئت أستسقي فاسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر سحابة، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن هذه السحابة السوداء أكثر ماء، فنودي من هذه السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، أي: خذها رماداً وناراً تنزل على عاد تحرق الجميع، قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}[الذاريات:٤١ - ٤٢] فهو اختار السحابة التي تليق بهم فاختار أسود سحابة فكانت أسود الأيام عليهم.
الغرض من الحديث: أن الرجل قص هذه القصة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بها، ففيها الإقرار لمثل هذا، وفيه أدب النبي صلى الله عليه وسلم في جلوسه الخاشع المتخشع المتواضع صلوات الله وسلامه عليه.
وفيه أيضاً: أن الإنسان بسمته قد يكون دعوة لغيره، فلما ينظر إليه الغير يعجبه سمته فيكون له قبول عنده، فالسمت الحسن جزء من أجزاء النبوة كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.