للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة خروج أبي هريرة جائعاً وإطعام النبي له ولأهل الصفة

حديث آخر في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع.

وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع)، أبو هريرة رضي الله عنه أسلم سنة سبع للهجرة، فقد وقعت غزوة خيبر في سنة سبع وبعدها أسلم أبو هريرة، ومكث مع النبي صلى الله عليه وسلم باقي سنة سبع وسنة ثمان وتسع وعشر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في أول سنة إحدى عشرة، إذاً: مكث مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وخلال أربع سنوات حفظ ما لم يحفظه أحد من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

ولا شك في حفظه الكثير للأحاديث التي حدث بها رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى إن كان ليجلس على باب حجرة عائشة ويتحدث بالأحاديث الكثيرة ويرويها سرداً حديثاً بعد حديث من شدة حفظه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقول للسيدة عائشة: اسمعي يا ربة هذه الحجرة! يعني: لو كنت أنا كاذباً فكذبيني فيما أقول، فلا ترد شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، غير أنها كانت تذكر أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث هكذا.

والغرض: أن أبا هريرة كان يعلم الناس ويحفظهم، فمجلس أبي هريرة كان يقول فيه ما حفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة تشهد أنه لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

وسبب حفظ أبي هريرة أنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن أبو هريرة مشغولاً بشيء، وليس له أولاد، وإنما كان همه أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكفيه أن يأكل حتى يشبع وباقي يومه يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (من أحب أن يحفظ حديثي فليبسط رداءه) فبسط أبو هريرة رداءه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يجمعه، فكانت البركة العظمى أن حفظ كل ما سمعه من النبي صلوات الله وسلامه عليه.

قال أبو هريرة: إن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع.

يعني: في سبيل طلب العلم والحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان غير مهم أن يأكل، فقد كان يربط حجراً على بطنه، ويجلس ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول من حديث حتى يحفظ.

قال: (ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه) يعني: يحكي ذكريات الجوع، ففي يوم من الأيام كان جائعاً جداً، وخاف أن تضيع منه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فأحب لو أن أحداً فطن إليه وأعطاه غذاءً بحيث يتفرغ ليحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم حين، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر) يعني: أبا هريرة يرخم اسمه تدليلاً له.

قال: (أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فاتبعته، قال: فدخل، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته ووجد كوزاً فيه لبن، فسأل: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه إليك فلان أو فلانة، وأبو هريرة جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى به لكي يطعمه.

فقال صلى الله عليه وسلم: (أبا هر! قال: قلت لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) أهل الصفة من فقراء المهاجرين يصل عددهم إلى سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشغلهم أنهم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقومون في أمره من جهاد ونحوه، وهم في المسجد ماكثون، ومن فقراء المسلمين.

قال هنا: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) يدعوهم على قدح فيه لبن، قال: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا إلى أحد) يعني: ليس منهم أحد متزوجاً، ولا عنده أولاد، فمأواهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً) لأنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه الصدقة، قال: (وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) يأكل من الهدية ويهدي لهؤلاء منها عليه الصلاة والسلام، فلما قال لـ أبي هريرة: اذهب وادع لي أهل الصفة، قال: (فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!) أي: هذا لا يكفي، قال: (كنت أحق أن أصيب في هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بُدٌّ) ليس هناك بد، أي: لازم عليَّ أن أطيع الله وأطيع الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: (فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يردُّ علي القدح)، الرجل يأخذ القدح ويشرب حتى يشبع من الشرب منه، ولعل أبا هريرة كان خائفاً أن ينتهي القدح، قال: (فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم)، أي: شرب أهل الصفة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: (أخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم)، صلوات الله وسلامه عليه إذْ كان يعرف ما هو الذي في نفس أبي هريرة، هل القدح نقص أو لم ينقص؟ قال: (فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب - مرة أخرى - فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني! فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة) صلوات الله وسلامه عليه، هذه بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ شرب هؤلاء الفقراء وبقي اللبن فشرب منه أبو هريرة الذي كان يظن أن اللبن يكفيه وحده فقط، فكفى هؤلاء جميعهم، وهذا مستحيل عقلاً أن يكون قدح من لبن يكفي سبعين رجلاً حتى يشبعوا منه، ولكن هذه بركة الله سبحانه، وآية من آياته ومعجزة لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في ذلك.

والغرض: بيان الجوع الذي كانوا عليه، حتى إن أحدهم يستمر على هذا اللبن اليوم كله، وكذلك أبو هريرة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.