[حديث عمرو بن عوف في الزهد في الدنيا]
ومن الأحاديث التي جاءت في الزهد في الدنيا حديث في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين ليأتي بالجزية، وهي مال يقسم على المسلمين كما ذكره الله عز وجل في كتابه في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:٧] فيقسم أخماساً.
فالصحابة الذين كان لهم نصيب في ذلك المال قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ووافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه كان قبل ذلك منهم من يصلي معه، ومنهم من يكون في عوالي المدينة فيصلون مع إمامهم هنالك، لكن لما سمعوا أنه جاء مال حضروا، فلما رأى ذلك تبسم صلى الله عليه وسلم.
فتبسم صلوات الله وسلامه عليه فقال لهم حين رآهم: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله)، فقد كانوا قوماً صادقين رضوان الله وتبارك عليهم، فلم يقولوا: افتقدناك فجئنا نصلي الصبح لنراك.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ابشروا وأملوا) أي أن الله تعالى سيفتح عليكم، وستأتيكم أموال كثيرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من معجزاته، حيث بشرهم في وقت كان المال فيه قليلاً، فبشرهم بالفتوح، فكانت الفتوحات العظيمة بعد ذلك.
فقوله: (ابشروا وأملوا) يعني: ارجوا من الله خيراً، فسيأتيكم خير من عند ربكم سبحانه، وأملوا ما يسركم.
(فوالله ما الفقر أخشى عليكم) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يفقرهم الله عز وجل أبداً، بل أعطاهم مالاً عظيماً كثيراً، وكانوا على وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يأتيه الموت وهو يخاف من المال الذي كان عنده، مع أنه يعطي الحقوق فيه كما أمره الله سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم).
إن الفقر قد يكون نعمة على الناس، حيث يكون الإنسان متواضعاً خاشعاًً عارفاً أنه عبد محتاج لله، ويكون محافظاً على الصلاة وعلى الصوم وعلى طاعة الله، عارفاً أن للناس حقوقاً، ويمشي وهو يسلم على هذا ويسلم على هذا، ويتواضع للناس، ولكن خشي النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الغنى، فالغنى مصيبة، إلا أنه قد يصير إلى تقي فيزيده الغنى تواضعاً لله سبحانه وبذلاً وإنفاقاً.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم) أي: كما فتحت على الذين قبلكم.
(فتنافسوها كما تنافسوها) فتقعون في التنافس في الدنيا، ولا يكفي المرء حينئذ ما يأتيه، بل يريد أكثر وأكثر من أي وجه من الوجوه، فيكسب الحلال ويكسب الحرام، ويحتال على البنك فيأخذ المال ويهرب، ويأخذ المال من بيع سلع فاسدة للناس.
وهذا الإنسان الذي يجمع المال الكثير إذا كان معه ألف فإنه يريد ألفين ويريد مليوناً ويريد ملياراً، وإذا فرضنا أن معه ملياراً فماذا سيعمل به وكيف سيصرفه هذا الإنسان؟ هل في طاعة الله أم أنه سيدخره للورثة؟ إن الإنسان إذا سئل: أي المال أحب إليك: مالك أم مال الورثة؟ فإنه سيجيب: مالي أحب إلي.
وهذا الذي تدخره من المال تسأل عن جميعه من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ وتتركه للورثة وأنت المسئول عن ذلك، ومهما أعطيت من الدنيا فإنك ستنام على سرير واحد، وستأكل من طبق واحد، وإذا فرغت من الأكل فإنك لا تستطيع أن تأكل مرة أخرى مباشرة.
وأما الإنسان العاقل فإنه يكفيه من الدنيا ما آتاه الله عز وجل منها، ولا يطمع، ولا يطلب الغنى الذي يطغيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخف عليهم من الفقر؛ لأن الفقر يحفظ على الإنسان دينه، فإذا جاء له المال فإنه قد يتعالى على الناس، فمن كان يسلم عليه صار لا يعرفه، ويمشي في الشارع وهو مكشر لا يطيق أن يرى احداً، ويذهب إلى العمل فيعامل الآخرين على أنه ذو مال، وقد كان يواظب على صلاة الجماعة فأصبح يرى نفسه مشغولاً بالمال وغير فارغ، وكان يحافظ على صلاة الجمعة فأصبح يذهب إلى البحر للاصطياد استغلالاً لعطلة الجمعة، ويترك جمعة يوم والثانية والثالثة حتى يختم على قلبه ويكون من الغافلين، فالمال يصنع ذلك في صاحبه، فهو يطلب اللهو ويقع في ذنب بعد ذنب حتى يترك عبادة الله، وحتى يأتيه الموت يندم.