[شدة جوع النبي وأصحابه في الخندق]
من الأحاديث في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأنا تركت حديثاً قبل هذا الحديث، وسنده ضعيف، وهو: (كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ)، فإسناده ضعيف.
وأما حديثنا فهو حديث جابر رضي الله عنه قال: (إنا كنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق).
وهذا يوم الخندق في غزوة الأحزاب سنة خمس من الهجرة، وذلك عندما جاء الأحزاب من قريش ومن أتى معهم؛ ليحاربوا المسلمين في المدينة، والمسلمون قد تعلموا من يوم أحد أنه لا بد من الطاعة، وأنه يكفي ما حصل يوم أحد، فلا بد أن نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا في يوم أحد أصروا على الخروج، وقالوا: نخرج كما خرجنا في بدر، فخرجوا فهزموا لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة درساً في الأدب والطاعة له عليه الصلاة والسلام.
فهنا في يوم الخندق استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان من مشورة بعض الصحابة أن يحفروا خندقاً حول المدينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه معهم لحفر هذا الخندق، فعرض حجر ضخم صلب، أو قطعة غليظة صلبة من الأرض، والفأس لا يعمل فيها شيئاً، فما قدروا على الحفر، فسيبقى هذا المكان الذي يمكن دخول خيول المشركين وعبورها منه إلى داخل المدينة.
فهنا لجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر)، قام وهو جائع صلى الله عليه وسلم، والمسلمون جياع، ونزل وما تعلل ولا قال: أنا جائع، بل نزل.
قال جابر: (ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم)، يعني: ضرب الحجر ضربةً، فتكسر، وبعد أن كان صلباً صار رمالاً، أو كثيباً أهيل.
قال: (فقلت: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت)، أي: أن راوي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صَعُب عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قام يحفر ويكسِّر هذه الصخرة الضخمة، وهو وعاصب بطنه من شدة الجوع، فاستأذن ليبحث في بيته عن شيء يطعم به النبي صلى الله عليه وسلم.
(قال: فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟)، يعني: لا أقدر أن أصبر وأنا أرى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، فعل عندك أي شيء للنبي صلى الله عليه وسلم؟ (قالت: عندي شعير وعناق)، عناق أي: معزة، وكانت المعزة التي يشربون لبنها ولا يوجد غيرها، وكان عندها شعير، فقال لها: اصنعي طعاماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال (فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم، والعجين قد انكسر)، أي: أن العجين قد أصبح جاهزاً لأن يدخل في الفرن، قال: (والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج).
والبرمة: هي القدر الذي فيه اللحم.
والأثافي: جمع أثفية، وهي حجارة توضع تحت القدر عندما يوقد عليه النار، وكانوا متعودين إذا أرادوا أن يطبخوا أن يأتوا بثلاث أحجار، يقال لها: أثافي كانوا يضعونها تحت القدر، فإذا لم يجدوا إلا حجرين وضعوهما إلى جنب الجبل، حتى يصير الجبل مكان الحجر الثالثة، وهذه هي التي يسمونها ثالثة الأثافي، كما هي معروفة في اللغة، وقولهم: رماه بثالثة الأثافي، أي: القطعة من الجبل كأنه يقول: رماني بداهية كالجبل.
قال جابر: (قلت: طعيم لي)، يعني: أعددت أكلة يسيرة فتعال وكل، وكان يخاف أن يسمع الناس، فيظنوه طعاماً كثيراً، ولم يكونوا بخلاءً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولكن الطعام قليل في نظره، فلو جاء عدد كبير فقد لا يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم شيء.