[الشفاعة في الحدود]
وقد تكون الشفاعة غير جائزة، كأن يشفع الإنسان في حاجة لا يجوز له أن يشفع في مثلها، كالشفاعة في إثم، أو ذنب، أو معصية، أو في غير نصيحة، أو يكون كاذباً في شفاعته فيدعي شيئاً غير موجود، أو يشفع في إلغاء حدود الله تبارك وتعالى وقد وصل الحد للإمام أو القاضي.
وقد جاء في الصحيحين: من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم أمر المرأة المخزومية التي سرقت)، وكانت امرأة مخزومية تسرق فتأخذ المتاع وتجحده، وتستعير من النساء الحلي والذهب وتضعه في بيتها، ثم تنكر أنها أخذته.
قالت عائشة: (فلما كثر منها ذلك) وكأنهم أشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعت هذه المرأة، فحذرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرها أن ترجع المتاع إلى أصحابه، فأبت المرأة وظلت على كتمان الحاجة التي أخذتها، فلما تكرر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها والمرأة لا تستجيب قالت عائشة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها).
لأنه ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها جحدت المتاع، أو ثبت عنده أنها في مرة من المرات مدت يدها وسرقت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وكان الأمر عند قومها بني عبد الأسد شديداً، إذ هم من أشراف الناس، وقطع يد المرأة من بني مخزوم بسبب السرقة سيحط من قدرهم، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفعوا عنده، فلما لم يجدوا إجابة، قالوا: من الذي يمكن أن يشفع؟ فقيل لهم: أسامة بن زيد، فهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهبوا لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكأنه تعاطف معهم، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في الأمر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له مستنكراً صنيعه: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) يريد أن يقول له: لا يحل لك أن تصنع ذلك، فأنكر عليه إنكاراً شديداً.
(ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، فقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
بين أن هذا الأمر ليس فيه شفاعة، فإنه أمر قد وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان لابد من إقامة الحد، ولا يجوز لأحد أنه يشفع فيه، بل الإنسان المسروق منه لا يجوز له التراجع، طالما صدر الحكم من القاضي.
وقد تقدمت قصة صفوان بن أمية رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انتظره في المسجد فنام ووضع بردة تحت رأسه، فجاءه إنسان وسرق البردة، فأمسكه ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد أن يريه أن هذا سرق مني فعاقبه.
فلما رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يده، مثلما أمر بقطع يد المخزومية، وما كان يظن صفوان بن أمية أن الأمر سيصل إلى قطع يد السارق، وكان حديث إسلام لم يعرف الأحكام التي في مثل هذه القضية، فقال: يا رسول الله! إني أعطيه له هبة فاعف عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان قبل أن تأتيني به).
والمعنى: كان يمكنك أن تشفع وأنت معه كما تريد، أما بعد أن رفع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فلا.
وكذلك إذا وصل الأمر للحاكم، فلا تجوز الشفاعة، بل جاء في الأثر: لعن الله الشافع والمشفع في هذه الحالة، وذلك أن الأمر إذا رفع للقاضي وشفع الناس هذه المرة بالكلام، ورق له القاضي وسامحه، ستكون الشفاعة في المرة القادمة بالهدية، فيعطي للحاكم هدية، وللقاضي هدية، ثم تأتي بعدها الرشوة وبذلك تعم الناس الرشوة، ويفسد أمر الحكم وتلغى أحكام الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)، أي إذا وصل الحد للنبي صلى الله عليه وسلم وثبت فيه سرقة الإنسان أو زناه، كان لابد أن يقام الحد على الإنسان المستوجب للحد.