[الإكثار من قراءة القرآن نعمة يستحق صاحبها أن يحسد عليها]
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الله وآناء النهار)، وهذا الحديث تقدم قبل ذلك.
قوله: (لا حسد) بمعنى لا غبطة، فأنت تنظر إلى هذا الإنسان وتتمنى أن تحفظ مثله، وليس الحسد هنا بمعنى أنك تتمنى زوال نعمته، فلا يجوز ذلك، وهذا الحسد قد أمرنا الله عز وجل أن نتعوذ به عز وجل من أصحابه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:١ - ٢]، إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥].
والمقصود بالحسد في الحديث أن تغبط هذا الإنسان وتحب النعمة التي هو فيها، وتتمنى بقاءها، وتتمنى أن يكون لك مثل هذا الإنسان، ولا تتمنى فقط بل تتمنى وتحاول، وقد تجد إنساناً يقول: ليتني أكون مثل هذا الرجل الذي يحفظ القرآن، لكنه لم يعمل شيئاً، ولم يحاول أن يحفظ القرآن، وقد تجد إنساناً يريد أن يحج، فتسمع آخر يقول: ياليتني أحج، فتسأله يا فلان هل ذهبت للحج من قبل؟ فيقول: لا.
فتقول له: هل لديك مال للحج؟ فيقول: نعم.
إذاً ما معنى قولك يا ليت؟ فاذهب وحج، وإذا منعت رجوت من الله أن يكتب لك الأجر على ذلك، وأما أن تتمنى الحج مع وجود المال ومع وجود الاستطاعة، ولم تصنع شيئاً فهذا من العجز، بل إن الذي يتمنى الخير عليه أن يعمل حتى يصل إلى أمنيته الصالحة، ولا يتمنى ثم يقعد.
فإذا قلت: يا ليتني أحفظ القرآن، فحاول أن تفتح المصحف ثم احفظ آية أو آيتين، واحذر من الشره، فإنها إذا أتت الإنسان تجده يقول: أريد أن أحفظ القرآن، فيأخذ المصحف ويريد أن يحفظ ربعين في اليوم، فلا يستطيع ويصعب عليه وينسى، ثم يمل ويترك، ولكن احفظ كما كان يحفظ الصحابة، فقد كانوا يحفظون بعض الآيات، ثم أتقن هذه الآيات، وافهم معانيها، ثم انتقل إلى غيرها، ولو تحفظ القرآن في عشر سنين أو في عشرين سنة، ولو قسمت القرآن على عشرين سنة أو ثلاثين سنة وعلم الله من حالك أنك تريد أن تحفظ القرآن فلعله يحشرك مع من يحفظ القرآن، حتى وإن مت قبل أن تحفظ فالله يعاملك بنيتك، فإذا أحسنت النية أعطاك الله عز وجل أحسن الجزاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الاثنين: (رجل آتاه الله القرآن فحفظه وعلمه، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار).
فاحرص على حفظ القرآن، واحرص على أن تحفظ أولادك كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا حفظت شيئاً فشيئاً فستحفظ في يوم من الأيام بفضل الله سبحانه وتعالى القرآن كاملاً.
وليكن عملك لله عز وجل، فلا تطلب بعملك الدنيا، وكذلك في أبنائك، فلا يكن الأمر أنك تريد من أبنائك أن يحفظوا القرآن لكي تفتخر بذلك فقط، فلعلك بشؤم هذا الكلام والافتخار تنسف كل ما حفظوه، فتعلم القرآن لله عز وجل وليس للتفاخر على الناس، وليس لأجل أنا ولدي أفضل من ولدك، فإن هذا لا يعرف إلا يوم القيامة، ومن أخلص لله كان له الفضل عند الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان حفظ القرآن وهو صغير فلما كبر وصار رجلاً وشاباً إذا به ينسي ما حفظه بسبب الغرور.
وكم رأينا من أطفال صغار من سنين طويلة يكون عمره ست سنين وقد حفظ القرآن كاملاً، ويكون عمره ثمان سنين وقد صنع حفلة لأجل أنه أكمل القرآن، والآن لما ننظر أين هذا الإنسان تجده قد نسي القرآن وانشغل بالدنيا، ولها ولعب مع اللاعبين، وذهب ما حفظ من القرآن.
فأنت عندما تحفِّظ ولدك كتاب الله ابتغ الأجر من الله، وحافظ له على ما حفظ من القرآن، وراجع معه، ومره ليل نهار بمراجعة كتاب الله سبحانه وتعالى، واحذر من الفخر حتى لا يضيع ثواب عملك، وحتى لا تجد شؤم هذا الافتخار في النسيان وعدم الاستذكار، فتضيع منك الدنيا والآخرة.
والولد الذي يحفظ القرآن يأتي يوم القيامة فيكسو الله عز وجل والديه بحلة من عنده سبحانه وتعالى، فيسألان الله عز وجل: بأي شيء هذا؟ فيقول: بحفظ ولدكما للقرآن.
إذاً فاطلب بعملك دائماً وجه الله سبحانه، واحذر من الدنيا، فإن الدنيا لن تدوم لك ولن تدوم أنت فيها، فلا معنى لأن تتكالب عليها وتطلبها، أو تطلب أن يشير الناس إليك.
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من ذلك، فقد كان أحدهم إذا سار في الطريق يسير معه الواحد والاثنان والثلاثة، فإذا زادوا عن أربعة تركهم وانصرف، فلا يحب أن يكون حوله مجموعة من الناس فينظر إليه بعين أن هذا معه مجموعة من الناس، فما كانوا يحبون إلا الاختفاء بالأعمال، والتقرب إلى الله؛ لأنهم تعلموا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد قائم يصلي يطول في صلاته ومعه رجل بجواره - والحديث في مسند الإمام أحمد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: (أتراه يرائي؟) يعني: لماذا يطول في الصلاة في المسجد في غير صلاة الفريضة؟ فقال الرجل: كعادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في طيب القلوب وحسن الظن قال: (يا رسول الله! هو من أعبد أهل المدينة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق إلى بيته، فلما وصل قال فنفض يده من يده وقال: إن أحب دينكم إلى الله أيسره) فالله لم يطلب من الناس أن يصلوا في المسجد بهذه الصورة، ولكن من أراد أن يطول في صلاته ففي بيته لكن أمام الناس لا؛ فإن الناس سيتنافسون في ذلك، فإذا صلى أحدهم نصف ساعة فإن الآخر يقول: سأصلي ساعة كاملة، والثالث يقول: سأصلي ساعتين، فتصبح الصلاة للتظاهر والتفاخر.
والفريضة قد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نصليها ونقرأ فيها، فنصلي كما صلى صلوات الله وسلامه عليه، والمطلوب في الفريضة الإظهار، والمطلوب في النافلة الاستتار، وتطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى بالفريضة والنافلة.
نرجع للحديث قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) (رجل آتاه الله مالاً) من نعم الله عز وجل على العبد أن يعطيه المال ويعطيه البنين، والإنسان طالما أنه يحافظ على النعمة وينفق لله عز وجل فإن الله يبقيها في يده، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل جعل منافع العباد عند أقوام، فأعطاهم نعماً -هذا معنى حديثه صلى الله عليه وسلم- يبقيها فيهم ما كان العباد ينتفعون بهم، فإذا تركوا أخذها الله عز وجل منهم).
وإذا آتاك الله مالاً فاعلم أن المال مال الله عز وجل، وأن فيه حقوقاً عليك، فإذا أعطاك ألفاً فعليك زكاة في هذه الألف إذا مر عليها سنة مقدارها خمس وعشرون، فتعطيها للفقراء، فإذا أعطيتها للفقراء أبقى الله النعمة في يدك؛ لأنك عرفت حق الله.
فإذا كانت أكثر من ذلك أعطيت زكاتها، وتصدقت على من يحتاج بشيء من مالك، وأعطيت بالليل وبالنهار، قليلاً وكثيراً، ومستحيل أن تنفق ولا يعطيك الله وطالما أنك تنفق ونيتك حسنة، فإن الله يعطيك ويبقي النعمة في يدك، إلى أن يضن الإنسان ويشح بماله ويرفض أن يعطي الحق للفقراء، فيأخذ الله عز وجل منه هذه النعمة ويحولها إلى غيره.
والفقراء والضعفاء يسألون الله عز وجل فيأت الله عز وجل بهذه الأرزاق التي تصل إلينا، والأرزاق لها أسباب، فإما أن تكون سبباً من هذه الأسباب فيعطيك النعمة ويفيض عليك من نهر نعمه سبحانه.
فإذا أعطاك الله فأعط الفقراء والضعفاء مما أعطاك الله عز وجل، وإذا منعت عنهم منع الله عنك العطاء وأعطاه لغيرك، ولن يحرم الله عز وجل الفقراء من رزقه وفضله وكرمه، ولكن يسبب الأسباب، فإذا أعطاك الله النعمة فأعط لخلق الله عز وجل ما وجب عليك، وأعط أكثر من ذلك مما تقتدي فيه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبعباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).
أي: في أحايين الليل وساعاته، وبالنهار وأوقاته، وفي رواية أخرى قال: (سلطه على هلكته في الحق) فهو يعطي وينفق المال لله، والله عظيم كريم، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.