الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم الكبر والإعجاب.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:٣٧].
وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٨].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة.
قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) رواه مسلم.
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع.
قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فِيه) رواه مسلم].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله تحريم الكبر والإعجاب.
فالكِبْر أو الاستكبار: أن الإنسان يرى نفسه كبيرة، والكُبْر يكون في السن، وأيضاً في الحجم، فإذا كان في بدنه، فالاستكبار هو أن يرى نفسه كبيراً فوق غيره، ويتعالى على غيره، ويظن نفسه أفضل من الخلق.
الكبر صفة من الصفات التي لا تكون إلا لله وحده لا شريك له، فهو المتكبر سبحانه وتعالى، وهو الكبير سبحانه المتعالي، ويأبى أن تكون هذه الصفة لأحد من خلقه؛ لأنها صفة لا تليق إلا بعظمته سبحانه، فهي له صفة كمال وجلال، ولذلك يقول: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما أدخلته النار).
من نازع الله في عظمته وكبريائه سبحانه فقد أتى ما لا يجوز له، إذ لا ليس لأحد أن ينازعه في ذلك، فإذا أبى الإنسان إلا أن يستكبر وأن يعطي لنفسه صفةً لا تكون إلا للخالق سبحانه، فيأبى الله أن يترك هذا على ما هو فيه حتى يذله ويذيقه الذل في الدنيا والآخرة، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه كما ذكرنا قبل ذلك.
فاحذر من الكبر، ويكفيك أن تعلم أنه صفة لا تليق إلا بالله، فلا يجوز لك أن تنتحل هذه الصفة، فتستكبر على خلق الله سبحانه وتعالى وأنت مثلهم.
جاء في القرآن تحريم الاستكبار، وتحريم إعجاب الإنسان بنفسه والفخر على غيره، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣] العاقبة الحسنة في الدار الآخرة للأتقياء الأنقياء الذين قلوبهم نقية تقية، يخافون من الله سبحانه وتعالى ويحقرون أنفسهم، وينظرون إلى غيرهم على أنهم أفضل منهم، فهذا الإنسان التقي يستحق أن تكون له العاقبة العظيمة المحمودة وهي الجنة العالية.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:٨٣] (تلك) أشار باسم الإشارة الذي يشير إلى البعيد لتعظيم الجنة، وتعظيم الآخرة، يعني: هذه الآخرة العظيمة.
وفرق بين أن يقول: هذه الدار الآخرة، فهو إشارة للقريب وللشيء اليسير، ولكن إذا أشار للشيء المعروف بإشارة البعيد فهو يحمل معنى التعظيم له.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:٨٣] هذه الدار العظيمة الآخرة الباقية {نَجْعَلُهَا} [القصص:٨٣] النون نون العظمة، يخبر عن نفسه سبحانه: أننا نجعلها للذين لا يستكبرون {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:٨٣] فهم تواضعوا فاستحقوا أن يرفعهم الله سبحانه وتعالى، قنعوا باليسير وبالقليل من الدنيا ولم يطلبوا شهرة ولا شيئاً يعلون به على غيرهم، فإذا بالله يعطيهم أعلى الأشياء.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:٨٣] للمؤمنين المتقين الذين يبتغون في هذه الدنيا أن يحسنوا عبادة ربهم سبحانه، ويتخلقوا بالأخلاق الحسنة فيها، لا يطلبون علواً ولا يبغون في الأرض بغير الحق، لا يفسدون في الأرض، لا يريدون علواً ولا فساداً في الأرض، قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].