[فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس، وترك الشهوات.
قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:٥٩ - ٦٠].
وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:٧٩ - ٨٠].
وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:٨]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:١٨].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله يذكر فيه فضل الجوع وخشونة العيش.
فالإنسان الذي يأكل إما أن يشبع وإما أن يكتفي بالقليل، فالذي يجوع في الدنيا يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة حساباً يسيراً، والذي يشبعه ويتخمه ويعطيه الكثير يطول حسابه، حتى وإن كان من المتقين، فإنها لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.
إذاً: فالمقلون في الدنيا حسابهم يسير يوم القيامة إذا كانوا من الأتقياء.
وليست الرفاهية في العيش محرمة، لكن على الإنسان أن يعود نفسه على التقلل من الدنيا؛ لأن نفس الإنسان طماعة، فكلما أخذ شيئاً تمنى غيره وما هو أكثر، فإذا عود نفسه على العطش وعلى الصيام، خاصة إذا كان يصوم شهر رمضان ويصوم أياماً من أيام العام تطوعاً لله سبحانه وتعالى، فسيستعين بذلك على مشقة الحساب يوم القيامة.
وقد ذكر المؤلف آيات في هذا الباب منها قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩].
وكلمة (خلف)، إذا كانت ساكنة اللام فهي: خلف سوء، يعني: أقواماً ليسوا بطيبين، وإذا كانت محركة اللام فهم خير، أو فيهم خير.
قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:٥٩]، حالهم {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩].
والدين جاء ليأمر العباد بعبادة الله سبحانه وتعالى، وبتوحيده وحده لا شريك له؛ لأنهم يستعينون بهذه الدنيا على الآخرة، فالله عز وجل خلق لكم ما في الأرض جميعاً، وأباح لكم ما شاء، وحرم عليكم ما شاء، فالإنسان في الدنيا يعيش بشرع الله عز وجل مستريحاً، استراح قلبه واستراح بدنه، واستراح في حاله ومآله بطاعته لله رب العالمين سبحانه، وإذا راجع الإنسان نفسه وحاسبها وراقب الله عز وجل فسيمشي على الصراط المستقيم؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.
فهؤلاء الخلف خلف السوء: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:٥٩]، فلم يخافوا من الله عز وجل، ولم يستحضروا وعيده، ولم يستحضروا يوم القيامة والجزاء فضيعوا الصلاة، كعادة الكثيرين من الناس، يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويجمع الصلوات بعضها على بعض، قال: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:٥٩]، وكأن تضييعهم للصلاة بسبب اتباعهم شهواتهم، شهوة المال، وشهوة الجنس، وشهوة البنين، فهو يجري وراء شهوته على حساب الصلاة.
قال تعالى مبيناً جزاء هؤلاء: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩]، والغي: شر الجزاء، وقيل: واد في قعر جهنم والعياذ بالله.
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩]، جزاء غيهم، وجزاء ضلالهم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:٦٠]، ففضل الله واسع عظيم، فقد هدد هؤلاء ثم بسط يد التوبة فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:٦٠]، فإذا فرضنا أن الإنسان وقع في شهواته، وابتعد عن ربه وطاعته ثم راجع نفسه فالله كريم وحليم يحلم عنه، ويتوب عليه.
قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:٦٠]، لأنهم تابوا لله عز وجل فلا يظلمهم؛ ولأنه يقبل التوبة عن عباده، فلما تابوا إليه قبل منهم التوبة وأدخلهم جنته.