يقول الإمام النووي: الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير، إذا كان لك عمل من أعمال الخير فحافظ على هذا الخير دائماً ولا تنقضه ولا تبطله ولا تنقطع عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا يمل حتى تملوا) أي: لا يقطع عنكم ثوابه حتى تنقطعوا أنتم عن العبادة، فيمل الإنسان أي: لهى وتعب من العبادة فيكون بذلك قد قطع عن نفسه الأجر والثواب من الله سبحانه، فطالما أنك تتقرب إلى الله بالعبادة فإن الله يعطيك، فكلما تقربت إليه شبراً يتقرب منك ذراعاً، وتتقرب منه ذراعاً يتقرب منك باعاً، وتأتيه تمشي يأتيك هرولة بفضله وثوابه ورحمته سبحانه.
قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:١١]، لا يغير ما في الناس من نعمة حتى يتغير الناس من شكر النعمة وتنقلب أحوالهم، فإذا بهم يكفرون بالله سبحانه، ويشركون به، ولا يحمدونه على شيء، فالله يقلب عليهم الحال، تسخطوا فاستحقوا من الله أن يسخط عليهم وأن يحرمهم، وإذا كانوا من أهل الطاعة وهم مستمرون على الطاعة؛ فالرحمة تأتيهم من عند رب العالمين سبحانه، وإذا كانوا من أهل المعصية وهم يدعون الله: يا رب يا رب وهم على معصيتهم، فإن الله لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا تابوا إلى الله تاب الله عز وجل عليهم، وأعطاهم من فضله، فتغيير الحال بحسب ما يكون عليه قلب الإنسان أنه مستمر على باطله أم أنه أعرض عن الباطل ورجع إلى الحق.
وقال سبحانه:{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}[النحل:٩٢] يحذر الله المؤمنين أن يكونوا بهذه الصفة، والذي يوعد الوعد ومن ثم يخلف ولا ينفذ، أو يعقد العقد ومن ثم يتحلل منه ولا يعطيه شبهه الله بامرأة خرقاء حمقاء كانت في الجاهلية تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ومن ثم تنقض هذا الثوب، ومن ثم ترجع تغزله مرة أخرى، ومن ثم تنقضه! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟! فيقول لنا:{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}[النحل:٩٢] من بعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري! وأنكاثاً جمع نكث وهو الغزل المنقوض.
وقال الله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}[الحديد:١٦]، ألم يأت الوقت بعد؟ ألم تأت الساعة التي تتوبون فيها إلى الله عز وجل وتعرفون حق الله سبحانه وتعتذرون إليه تائبين إليه؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}[الحديد:١٦]، فأهل الكتاب طال عليهم الأمد من قبل، رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، وطال عليهم الزمن، فتركوا ما أتى وبدلوا وغيروا.
واليهود بعد أن قبض موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وطال عليهم الأمد فغيروا، بل في حياته غيروا، فعندما غاب عنهم أربعين ليلة واعده الله عز وجل فيها عبدوا إلهاً آخر! فقال:{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}[الحديد:١٦] كلما بعد الإنسان عن الإيمان شيئاً فشيئاً يقسو قلبه، فإذا بالذي كان يعرفه معروفاً صار منكراً، وإذا بالذي كان يعرفه منكراً صار معروفاً، وما أكثر هذا في الناس! فتجد الشيء الخاطئ الذي كان يشمئز منه الإنسان أصبح من كثر ما اعتاد عليه سهلاً لا يعبأ به! فعلى المسلم أن يعود نفسه على الخير، وعلى الصدق وإن كان الناس كذابين، ويعود نفسه على الوفاء حتى وإن كان الناس خائنين، وإن وقع الناس في الشرك والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى لزم الحق، ورحم الله الفضيل بن عياض حين يقول: الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
الزم طريق الهدى، حتى وإن كان معك القليل من المؤمنين على هذا الطريق، واحذر طرق الضلالة والتي على رأس كل منها شيطان يأخذك إليها، ولا تغتر بكثرة الهالكين.