للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضيلة الماهر بالقرآن]

عن عائشة رضي الله عنها -وهذا في الصحيحين- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة).

والماهر بالقرآن قالوا هو الذي يجيد لفظه على ما ينبغي، يعني: أنه ينطق به نطقاً صحيحاً فصيحاً بما تعلم من أحكام تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يشتبه عليه ولا يلتبس في قراءته، فهذا الإنسان مع السفرة الكرام البررة.

والسفرة هم رسل الله الذين بين السماء والأرض، وقد نزلوا إلى رسل الله بما أعطاهم الله عز وجل من هذا القرآن؛ ليحفظه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا مع ملائكة الله الذين وصفهم بأنهم سفرة، وكرام وبررة.

قال صلى الله عليه وسلم: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فلن تعدم خيراً في حفظ كتاب الله عز وجل، فإن حفظت بسهولة فلك أجر عظيم، وإن حفظت وتعبت في الحفظ وكان شاقاً عليك وتتعتعت فيه فلك أجران وليس أجر واحد، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) هذا الحديث يقسم الناس مع القرآن إلى أربعة أصناف: إما مؤمن وإما منافق، والمؤمن إما أنه يحفظ من القرآن وإما أنه لا يحفظ، والمنافق إما أنه يحفظ وإما أنه لا يحفظ، فصاروا أربعة: وصفين في وصفين.

قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن) وضرب لنا مثالاً من الأشياء الموجودة بين أيدينا، فالذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، وهي ثمرة من الثمار أقرب ما يمكن أن نشبهها بالبرتقالة أو الأترنجة، وهذا نوع من أنواع الثمار الموالح.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب) فإذا أخذتها وشممتها لن تجد لها ريحاً خبيثة، ولكن ستجد لها رائحة حلوة طيبة، وتأكلها فإذا هي طيبة، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله طيب ظاهره وباطنه، فعبر عن ذلك بثمرة رائحتها جميلة، ولونها أصفر، وقد ذكر الله عز وجل اللون الأصفر، فقال: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:٦٩]، فيسرك لونها ويسرك طعمها، فتنتفع بها.

قالوا: وفيها فوائد في بذرها، وفي لحمها، وفي شحمها، وفي قشرتها، قالوا: وكذلك الإنسان المؤمن إذا كان حافظاً لكتاب الله عز وجل فإن فيه فوائد لا تعد.

قالوا: والأترجة اشتركت فيها حواس الإنسان الأربع، البصر: فإذا نظرت إليها سرك منظرها، والذوق: فتتذوق طعمها فتفرح به؛ لأنه جميل، والشم: فتشمها طيبة فلا تؤذيك، واللمس: فملمسها ناعم وطيب وجميل.

وهو هنا يقرب مثل المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل وليس شرطاً أن يحفظ الكتاب كله، فلو حفظ بعضه فإن ذلك يشمله، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن جميل باطنه وظاهره.

قال: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) فصفة الإيمان فيه صفة طعم، وصفة الرائحة قد توجد وقد لا توجد، وأما الطعم فباقٍ، لذلك فالإيمان باقٍ فيه، ولو ترك الإيمان لحظة كفر، فهو مؤمن، وإيمانه مستمر كطعم التمرة، وقد يقرأ القرآن أحياناً وقد يتركه أحياناً، وقد يحفظه أحياناً وقد ينساه أحياناً، لكنه إذا قرأ القرآن فهذا مثَله.

فإذا كان لا يحفظ القرآن فمثله مثله مثل التمرة لا تعدم فيه خير، وإذا بلوته واختبرته وجدت فيه الخير؛ لأنه مؤمن، فإيمانه كهذه التمرة التي لا ريح لها ولكن طعمها حلو.

يقول صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) وهنا ينعكس الأمر، فالإنسان المنافق مسمِّع ومرائي بحفظه لكتاب الله، فلم يحفظ لله عز وجل، وإنما حفظ القرآن لكي يجادل به بالباطل، ولكي يظهر نفسه أمام الناس، والمنافق هو الذي طلب بالقرآن الدنيا ولم يطلب به وجه الله سبحانه وتعالى، فمثله كمثل الريحانة: رائحتها جميلة، وأنت قد تستهويك الرائحة الطيبة فإذا طعمت هذا الذي رائحته طيبة وجدته مراً، وهذا إذا سمعت صوته وجدته جميلاً جداً، فإذا تعاملت معه خدعك ونصب عليك، وعمل بخلاف ما يقوله، فهذا الرائحة الطيبة التي فيه هي رائحة القرآن العظيم، وأما هو فطعمه مر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن) أي: المنافق الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن، وقلبه فيه الكفر، وأفعاله الظاهرة تدل على ما في باطنه، وإن كان ينتمي إلى المسلمين ويجلس مع المسلمين لكن حقيقته أنه كافر، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، فابنه كان مؤمناً وكان هو كافراً يظهر الإسلام فقط؛ ليحصن نفسه ودمه بدخوله في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الرجل الذي كان كافراً وكان يعادي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي طلب ابنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في ثوبه، فكفنه بثوبه، ولم يزل يلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حتى صلى عليه، فلم تنفعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠] أي: حتى أنت يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مهما استغفرت لهذا المنافق فلن يغفر الله له، وكلمة (سبعين) ليس المقصود منها نفس العدد سبعين، ولكن المقصود تكثير العدد، كما تقول: مليون مرة، وكان العرب إذا قالوا سبعين يقصدون به العدد الكبير، فجاء القرآن بلغتهم، فسواء استغفرت له أم لم تستغفر فلن يقبل؛ لأنه عاش كافراً ومات كافراً وإن أظهر للناس أنه مسلم، {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة:٨٤] فكانت آخر مرة يصلي فيها رسول الله على رجل منافق {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤] لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:٨٤]، فهنا يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق وأمثاله من الذين أظهروا الإسلام وكانوا بين المسلمين، أنهم كانوا أشد بغضاً لدين الله عز وجل وللمسلمين، وإذا أتى وقت الجد تكلموا بكلام قبيح لا تتوقعه، فقد تسمع عن الإنسان أنه مسلم فإذا تكلم شعرت أنه أشد من أعداء الإسلام على الإسلام، بل إن أعداء الإسلام يستحيون أن يقولوا ما يقوله هذا الإنسان، ومثل هذا يقول: أنتم تريدون أن ترجعونا مرة أخرى للتخلف وللماضي، وتريدون أن تعيدونا إلى الكتب الصفراء يقصدون القرآن وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتعجب من هؤلاء فكلامهم مر، وحين تخبر هذا الإنسان تجد النتن في كلامه، وتجد القذارة والكفر على لسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المنافقين، (لا ريح لها) يعني: مثله مثل الحنظلة (لا ريح لها وطعمها مر) فليس فيه أي خير ولا أي فائدة، وإذا تكلم تكلم بكلام الكفار وليس بكلام المسلمين، فلا ينطق إلا بشر، وإذا تعاملت معه تجده أبعد الناس عن دين الله سبحانه، وأحقد الناس على دين الله سبحانه وتعالى، فيتكلم عن الإسلام بكلام هو الكفر والعياذ بالله، وهو أمرّ من الحنظل كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فهو مثل الحنظلة، فالمؤمن مثله كشجر الفاكهة كالأترجة التي شجرتها عالية، والمنافق مثله كمثل الحنظلة، وهو نبات ينبت على الأرض يسمونه بطيخ، فالمنافق في الحظيظ على الأرض، والمؤمن عالٍ مرتفع.

عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فهناك أناس حفظوا القرآن وارتفعوا به فكانوا أحب الخلق إلى الله عز وجل، وكانوا أهل الله وخاصة الله، فارتفعوا بالقرآن وسموا به، وأناس آخرون طلبوا القرآن للدنيا فإذا بالله يضعهم، فيأبى الله أن يرفع إلا من أعز دينه، وإلا من والى الله سبحانه وتعالى، وقد تجد إنساناً حافظاً لكتاب الله محبوباً بين الناس، وتجد آخر يحفظه لكن الناس يبغضونه ولا يحبونه، فهذا وضعه الله وذاك رفعه الله سبحانه وتعالى.