ومن الأحاديث في ذلك: حديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وفيه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله).
إذاً: فالاختلاط بالناس أمر حسن وجميل إذا كان على هذه الهيئة، فهو مجاهد بنفسه وماله، فيبذل نفسه في سبيل الله عز وجل، ويجاهد الكفار، ويجاهد المنافقين بيده وبلسانه وبقلبه، ويختلط بالناس فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فهو مؤمن مختلط بالناس مجاهد في سبيل الله عز وجل، فهذا أفضل ما يكون، ونفعه متعدٍ فكان أفضل.
والذي يليه قال صلى الله عليه وسلم:(ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب)، فليس كل الناس يستطيعون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ثم من؟ أي: فالذي لا يقدر على هذا الشيء، فمن الذي يلي هذا؟ قال:(ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب).
والشعب هو الطريق بين الجبلين، وكأن الدنيا قد ضاقت عليه، فالدنيا كلها فتن وبلاء ومصائب، فكلما ذهب إلى ناحية وجد الفتنة، وكلما ذهب إلى معاملة وجد الحرام، فإذا به يذهب إلى الشعب بين جبلين؛ من أجل ألا يرى أحداًً من الناس.
ويكون معه غنم في ذلك الشعب؛ من أجل ألا يحتاج إلى أحد من الناس، فهو يلبس من صوفها، ويأكل مما يستخرجه منها، ويشرب من ألبانها، فزهد هذا في الدنيا لأنه يخاف على نفسه من الفتن، فإذا به يعتزلها إلى أن يصل به الحال إلى هذه الصفة.
وليس ذلك مطلوباً من الناس كلهم، ولكن إذا ضاقت على المؤمن الدنيا فوجد الملجأ في البعد عن الناس فله ذلك، وكل إنسان يبتعد بحسب ما يقدر عليه، فهذا يجد مثلاً في الحي الفلاني فتناً فيبعد عنهم، وهذا يجد في القبيلة الفلانية الفتن فيبعد عنها، أو في البلدة الفلانية فتناً بعد عنها، فيعتزل الإنسان أهل الفتن وأهل المعاصي، ويكون أصحابه ورفقاؤه هم أهل الله عز وجل، وهم عباد الله سبحانه، هم أصحابه في بيت الله، فيصلي مع المسلمين، ويكون مع الناس في طاعتهم لله سبحانه، ويقلل من رفقاء السوء قدر المستطاع، وهذا طالما أنه لا يقدر على أن يدعوهم إلى الله، بل يخاف أن يفتنوه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن المخرج:(ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)، إذاً فابق في بيتك وقلل من الخروج إلى الناس طالما أن المخالطة مع الناس تؤذيك وتفتح لك طريق النار.
إذاً: فهذا الإنسان يلزم بيته ويبتعد عن شرور الناس، وأفضل شيء أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يختلط بالناس ليدعوهم إلى الهدى، ولكن إذا وصل أمر الاختلاط إلى أنه سيضيع فليتدارك نفسه وليبتعد عن شرار الخلق، قال لنا صلى الله عليه وسلم:(ثم الرجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه)، وفي رواية:(يتقي الله ويدع الناس من شره).