للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه)]

عن عمر يرويه عنه عبد الله بن عمر ابنه، ويرويه عن عبد الله ابنه سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع.

يقول عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني)، يعطيه من الأموال التي تأتي النبي صلى الله عليه وسلم من مغانم الفيء ونحو ذلك، فكان يقسمها على ما أمر الله تبارك وتعالى به في الغنائم، قال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال:٤١] الآية.

فذكر أن الخمس يصرف في هذه المصارف، والأربعة الأخماس تكون للغانمين المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وإذا كان المال فيئاً فقال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:٧].

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم هذا المال بحسب ما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى به، فكان يقسم على المؤمنين بحسب ما أعطاه الله سبحانه، قد يعطي الجميع، وقد يعطي الأكثر، وقد يعطي البعض بحسب المال.

قال عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء)، كأنه تكرر هذا الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه، (فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني) يعني يوجد من هو أفقر مني، وأحوج مني لهذا المال.

فلما تكرر هذا من عمر رضي الله عنه علمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه).

المشرف: أن يتطلع إليه يريده، والسائل: الطالب، فالمشرف أن يكون في نفسه يريد أن يأخذ هذا المال ولكن لا يسأل، وقد يريد الإنسان ويطلب ويسأل، وعمر لا هذا ولا هذا، لا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ولا استشرفت نفسه هذا المال.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله)، العطاء هو الذي يعطاه الإنسان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي، ومن بعده الخلفاء الراشدون كانوا يعطون الأموال من المغانم والفيء وغير ذلك أعطيات.

وكان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في عهده يعطي الناس على حسب تقدمهم في الإسلام وتقدمهم في الهجرة وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فجعل كل سنة مرتباً لكل إنسان منهم حتى عم الخير بفضل الله سبحانه وتعالى على الجميع.

فتعلم عمر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءك من هذا المال شيء فاقبله طالما أنك لم تسأله ولم تستشرف له، فخذ ما آتاك الله سبحانه وتعالى من بيت المال، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر من مال الغنائم ومن مال الفيء ونحو ذلك.

قال: (فخذه فتموله) أي: اتخذه مالاً وانتفع به.

(فإن شئت كله وإن شئت تصدق به) فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر ولا يرد عطاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أعطاك الخلفاء من بيت المال فخذه وتموله إن احتجت إليه، وإن لم تحتج إليه فاقبله وأعطه للفقراء، فيجري الله عز وجل على يدك الخير، ولا تمتنع من هذا المال طالما أنك لم تسأله، ولكن إما أن تنتفع به إذا كنت محتاجاً أو تعطيه لغيرك.

وهذا أدب عظيم علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ولغيره، المال الذي من بيت المال حق المسلمين، ما أتى من أجل أن يدخر في بيت المال، ويمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند الخلفاء من بعده، بل يوزع هذا المال بحسب ما يريه الله تبارك وتعالى.

ولو أنه أعطى هذا المال لـ عمر وقال عمر: لا أريد، فغيره من الناس أيضاً سيقولون: لا نريد، وعمر ما هو مستشرف ولا متطلع ولا سائل، ولكن غيره قد يكون مستشرفاً لهذا المال.

وعمر أخلص في رفضه لله سبحانه، ولعل غيره لا يخلص في رفضه لهذا الشيء، وسيفتح على الناس باب شر، فيقول أحدهم: لا أريد؛ حياءً من الناس، وهو يريده ومحتاج إليه، فيأتي من الباب الخلفي، وإذا لم يكن عنده دين يسرق من أموال الناس، فأغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، فإذا رأيت أنك محتاج فأعطيتك فخذ، فإن كنت غير محتاج فأعطه لمن ترى أنت، ولكن اقبل المال بحيث أن غيرك لا يستحي أن يأخذ حقه من بيت المال.

فتعلم عمر رضي الله عنه هذا، فأخذ هذا المال، وكان يعطي من هذا المال بعد ذلك لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما تولى الخلافة، وقسم الناس حسب مراتبهم في الإسلام ومراتبهم في الهجرة ومراتبهم من النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان حكيم بن حزام يرفض أن يأخذ المال منه، فكان يشهد عليه الناس ويذكر ما حدث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأثر، ويقول: اشهدوا أن حكيماً لا يريد أن يأخذ المال الذي هو حقه من بيت مال المسلمين.

وفي رواية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك)، أي: إذا لم تأخذ لحاجة فلا تطمع في شيء، فإذا آتاك الله عز وجل المال فخذ ما آتاك الله سبحانه.

قال سالم بن عبد الله: فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً.

انتفع عبد الله بن عمر بما سمع من أبيه رضي الله عن الجميع، قال: (فكان لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يرد شيئاً أعطيه) يعني: ما كان يطلب من الخلفاء شيئاً ولو طلب لأعطوه، فقد كان عبد الله بن عمر محبوباً رضي الله تبارك وتعالى عنه.

ولكنه ما كان يطلب من أحد شيئاً، فإذا أعطاه الخلفاء أو أعطاه أحد على وجه الهدية قبل ذلك، لكن هو لا يطلب، والسبب ما سمعه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يأخذ المال فينتفع به إما لنفسه وإما أن يتصدق به أو يعطي الناس على وجه الهدية ونحوها.