وعنه أيضاً قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني)، كأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله عاملاً عنده، ويعطيه ولايات على أشياء يفعلها، إما عرافة على قوم، وإما ولاية على أموال الزكاة، أو جمع الصدقات، أو توزيعها، أو ولاية على بلدة ونحو ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على منكبه رضي الله تبارك وتعالى عنه ثم قال:(يا أبا ذر إنك ضعيف)، إذاً: ليس أي أحد يطلب الإمارة، ومن طلب الإمارة لا يعان عليها، حتى وإن كان قوياً لا يعان عليها، فكيف بالضعيف؟ قال:(إنك ضعيف وإنها أمانة - الإمارة أمانة - وإنها يوم القيامة خزي وندامة)؛ لأن الأصل فيها أن كل أمير في الدنيا يأتي بخزي وندامة يوم القيامة، ويقول: يا ليتني ما توليت شيئاً، قال:(إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، وكل الناس يزعم أنه لو كان الأمير أو الرئيس لفعل من الخير ما فعل، فهنا الإمارة ليست في التمني، إنما الإمارة في الحقيقة، فكم من إنسان تمنى ونال وضيع دينه وضيع أمانته وغرته الرياسة وغرته الأمانة، هل رأيتم الرئيس الذي كان مسلماً، ومن أجل أن يكون رئيساً على النصارى تنصر؟! وهو كارلوس منعم، كان مسلماً وتنصر حتى يكون رئيساً على الأرجنتين، الإنسان في الدنيا تراه في دين ربه سبحانه وتعالى، ولا يدري متى تأتيه الفتن، فتراه يجاري ويجاري مع الناس إلى أن يضيع هذا الإنسان في النهاية، ويتسمى بأسماء غير المسلمين طلباً للدنيا فخسر الدنيا والآخرة.
فتكون الأماني لكل من كان هذا مثاله، يقول: اليوم سأعمل وغداً سأتوب، ولا يأتي هذا الغد، ويفرح بما هو فيه.
وهذا هرقل عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول حق، وكاد يسلم ويدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية لما قال لقومه: اتبعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وجدهم هاجوا، وكان قد أقفل عليهم الأبواب، فقال لهم: إنما أنا أمزح معكم، وأختبركم هل أنتم متمسكون بالدين أم لا؟ مع كونه سأل أبا سفيان عشرة أسئلة أو أكثر، والأسئلة كلها تدل على ذكاء خارق لهذا الإنسان، وعلى أنه فعلاً فاهم وواع ويعرف تماماً أن هذا نبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي أسئلته لـ أبي سفيان قال: قلت لك: هل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: هذا رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل يتبعه ضعفاء الناس أم أقوياء الناس؟ فذكرت أنهم ضعفاؤهم، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك هل يكذب؟ فذكرت: أن لا، وقد أعلم أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فقد كان رجلاً واعياً حينما سأل أبا سفيان وأجابه بما أجابه، وفي النهاية كاد يسلم، وإذا به يطبع على قلبه فلا يسلم، ويظل على ما هو فيه من كفره.
فلذلك الإنسان لا يغتر بإمارته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرك أنك إذا كنت ضعيفاً فابتعد عن هذه الأشياء ولا تطلبها، فإذا أتتك من غير طلبك فسوف يعينك الله عز وجل عليها، قال عليه الصلاة والسلام:(إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
فقوله:(أخذها بحقها) أي: عمل بالحق وأدى الواجبات التي عليه، فيكون له ذلك نجاة يوم القيامة.
وقد عرفنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يطلب القضاء لا يعان عليه، قال: فكأنما ذبح بغير سكين، هذا الذي يطلب القضاء ويناله كأنما ذبح بغير سكين.