[ما جاء من الجمع بين الخوف والرجاء في القرآن]
هذا باب آخر من أبواب كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الجمع بين الخوف والرجاء، وقد ذكر قبل ذلك باباً في الخوف، وذكر باباً في الرجاء، وذكر باباً في فضل الرجاء، وذكر هنا باباً في الجمع بين الخوف والرجاء، وبين لنا أن المقصد منه أن العبد المؤمن في حال صحته يكون خائفاً راجياً، فيخاف من الله عز وجل، ويكون راجياً لرحمة رب العالمين سبحانه.
فالخوف يجعله مطيعاً لله، ويمنعه من الوقوع في المعاصي، والرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، فيرجو فضله ورحمته.
وإذا كان في حال المرض وخاصة المرض المخوف فإنه يغلب جانب الرجاء، فالرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، ويرجو فضله ورحمته، وكذلك يجعله يحسن الظن بالله سبحانه، والله عند ظن العبد به، فإذا أحسن العبد ظنه بالله ورجاءه قبله سبحانه وأعطاه ما لا يرجوه.
قال الله عز وجل: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:٥٤]، فربنا يملي للإنسان الكافر ويملي للفاجر، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
فمن ظن أن الله عز وجل يعطيه وهو يعصي ربه، أو ظن أن الله يعطيه لخيريته، أو لأنه يستحق ذلك، فهذا إنسان قد جهل ربه سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١]، وجهل ما وقع فيه من معاص، فالإنسان الذي يفجر ويعصي ويتركه ربه فذلك الترك لأمرين: إما أن يراجع العبد نفسه فيتوب إلى الله، وإما أن يكون ذلك إملاءً من الله سبحانه، حيث قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:١٨٣] أي: يتركهم إلى أن يأخذهم أخذاً يعتبرون به، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من لم ينتفع بهذه الموعظة.
فالإنسان الذي يتعظ بغيره يكون له في ذلك عبرة، فيحذر أن يقع في تلك المخالفة التي وقع فيها غيره.
وأما الإنسان الذي لا يعتبر بشيء فكلما أعطاه الله ازداد كبراً وغروراً، فهذا يملي الله له، فإذا أخذه جعله عبرة لغيره، قال سبحانه: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩].
والمكر: هو الكيد من الله عز وجل والإملاء والاستدراج للعبد، فالعبد يخادع ربه والله خادعه، فالمنافق مثلاً يخادع وربنا يملي له ويتركه حتى إذا دخل في المكان الذي يظن أنه آمن فيه إذا بحتفه يأتيه، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣]، فربنا يمكر بهم ويأخذهم من حيث يشعرون أنهم آمنون، وأنهم لا يوصل إليهم، وإذا بكيد الله يصل إليهم في مأمنهم.
فالله عز وجل يمكر بالكافر ويمكر بالفاجر، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
فالذي يأمن مكر الله لا يستعد لذلك بالإيمان وبالطاعة، وهذا إنسان خاسر يظن أن الله لا يقدر عليه.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] وروح الله: رحمته.
فالذي ييئس من الرحمة لا يستحقها؛ لأنه لم يؤمن بصفة من صفات رب العالمين، فإذا يئس من رحمة الله لم يستحقها وصار كافراً؛ لأنه أنكر صفة من صفات رب العالمين سبحانه، والذي يأمن مكر الله يستحق أن يكون من الخاسرين؛ لأنه تناسى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة القدرة وصفة الإملاء، فهو يملي وكيده متين.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦] وهذا في يوم القيامة، فهناك تظهر أعمال العباد، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران:١٠٦]، وهذا لمن عرفوا الحق ثم تنكبوا عن طريقه، ولمن دخلوا في الإسلام ثم ارتدوا عنه، فيقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:١٠٦ - ١٠٧].
فالذين يبيض الله عز وجل وجوههم يفرحون بذلك، فإذا دخلوا الجنة قال الله لأهل الجنة: (هل تريدون شيئاً؟ فيقولون: وأي شيء نطلب، ألم تعطنا؟ ألم تبيض وجوهنا؟)، فمن ضمن ما يذكرونه لله رب العالمين وله المنة سبحانه: أنه بيض وجوههم، وأدخلهم جنته سبحانه.
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:١٦٧].
وهذه صفات لله سبحانه، فهو سريع العقاب، وقد يحلم عن عبيده ويتركهم لعلهم يتوبون، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:١٦٧]، فالإنسان بين الخوف والرجاء، فهو بين الخوف من سريع العقاب سبحانه، وبين رجاء رحمة أرحم الراحمين الغفور الرحيم.
وقال سبحانه: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٣ - ١٤].
فربنا يمنّي الإنسان المؤمن بهذه النعم، فيعمل له بطاعته، ويخوفه من الجحيم، فاحذر أن تفجر فتكون من أهلها.
وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:٦ - ٧].
وقال في سورة الحاقة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:٢١ - ٢٣] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤].
وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:٨]: فالموازين توضع في يوم القيامة، فتوزن أعمال العبد، فإن ثقلت الموازين ورجحت كان من أهل الجنة، وكان في عيشة راضية.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:٨ - ٩]: أي: هي مقصده ومصيره ومكانه الذي يستحقه، فيهوي في نار جهنم، فأمه: أي: مقصده وسبيله وطريقه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:١٠ - ١١].