[ثناء الناس على الميت]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: وصلنا في أبواب الجنائز إلى قول الإمام النووي رحمه الله: باب ثناء الناس على الميت.
وهذا من آخر أبواب الجنائز في كتاب رياض الصالحين، وقد ذكر فيها حديثاً عن أنس رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) والحديث متفق عليه.
وجاء عن عمر أنه ذكر مثلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أبو الأسود فقال: هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصد من ذلك أن الإنسان المؤمن يتعامل مع الخلق جميعهم بحسن خلق، ويطيع الله عز وجل فيهم، فإذا فعل ذلك كانوا شهداء له عند وفاته، فإنه لن يعدم من يشكره، ويثني عليه، ويدعو له بخير، فيكون شهيداً له عند الله عز وجل، ويقبل الله شهادته له.
فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الأول الذي أثنوا عليه خيراً، (قال وجبت)، وفي روايه: (قال وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، والثاني أثنوا عليه شراً فقال: وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، قالوا: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار).
فهنا ثناء الناس يكون من غير تعمد لذلك، والإنسان يمكن أن يقول للناس: لما يموت فلان أثنوا عليه خيراً، وقولوا: فلان كان صالحاً وكان كذا؛ حتى توجب له الجنة، فليس هذه هو المقصود.
وجاء في حديث آخر بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الملائكة تنطق على لسان هذا الإنسان، وكأن الله يبعث ملائكة تجعلك تنطق بذلك فتقول: فلان كان رجلاً صالحاً، وكان فيه كذا، ويذكرك الله عز وجل بإحسان هذا الإنسان إليك وإلى الناس يوماً من الأيام، فتثني عليه خيراً، ويمكن يكون هذا المتوفى قد نسيته وفجأة تذكر أنه في يوم من الأيام أسلفني مالاً، وفعل بي كذا، والذي ذكرك بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لتثني عليه، فيقبل الله عز وجل منك ثناءك عليه وشهادتك له، فيكون لهذا الإنسان الجنة، والله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويستر على العبد ما وقع فيه من آثام، ويغفر له، ويقبل شهادة الناس فيه، ويجعل لهذا الإنسان الجنة.
والعكس كذلك: فقد أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، والذي تثني عليه شراً ويذكره الناس بسوء يمكن أنه حين توفي لم يكن يخطر بقلبك، فلما أتيت تصلي على هذا الإنسان إذا بك تذكر أن هذا كان رجلاً سيئاً، وكان مؤذياً للناس، فتذكر أنت هذا الإنسان بشيء سيء كان فيه، فالثناء الأصل فيه أنه الذكر بالقلب، ولكنه هنا أن تذكر غيرك سواء بخير أو بشر، وإن كانت العادة أنه يطلق في الخير.
وهذا إذا كان المتكلم صادقاً، وإذا كان الله عز وجل هو الذي فعل ذلك فجعله ينطق بهذا الذي كان عليه هذا الإنسان، فيستحق أن يكون من أهل النار.
وفي رواية أخرى للحديث نفسه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير).
قوله: (شهد له أربعة) إذاً ليس شرطاً أن يثني عليه بالخير كل الناس، فربما لا يعرفه إلا القليل، ولكن القليلين الذين يعرفونه يعرفون خيرية هذا الإنسان، وأنه بعيد عن المعاصي، وربما أنه كان يخفي عمله فلا يطلع عليه كثير من الناس، فكان من كرم الله سبحانه أن جعل الشهادة التي يدخل بسببها الإنسان الجنة من أربعة أو ثلاثة أو اثنين.
فلما قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة -طمع الصحابة فقالوا-: وثلاثة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: وثلاثة.
قالوا: واثنان؟ قال: واثنان) صلوات الله وسلامه عليه، وأقل الجمع وأقل ما يمكن أن يتعامل معه الإنسان: اثنان، وهذا نادر.
والإنسان ذو الخلق الحسن والإيمان القوي في معاملته مع جميع خلق الله عز وجل أخلاقه حسنة، فإذا تعامل مع التاجر في السوق عامله بحسن خلق، فيحبه التاجر، وإذا تعامل مع الصانع في مكانه عامله بحسن خلق، فيحبه الصانع، وإذا تعامل مع زوجه وأولاده وجيرانه وأصدقائه وإخوانه تعامل بحسن خلق، فهو حسن الخلق مع الجميع، وحَسَنْ الخلق مستحيل ألا يتعامل مع أحد أبداً.
وفي الحديث أن الاثنين إذا شهدوا له بخير -طالما أنهما صادقان في ذلك- فإن الله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويغفر لهذا العبد، ويجعله من أهل الجنة.
لذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يكثر من إخوانه أهل الخير، وأن يخدم وينفع الناس، فإن أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، والإنسان الذي يبذل المعونة والنفع لكل المسلمين يُحتاج إليه، فهو الذي ينفع الناس، وهو الذي يصلي عليه الناس حين يتوفى، ويدعون له بخير، فيكون له عند الله عز وجل أن يستر ذنوبه، وأن يغفر له، وأن يجعله من أهل الجنة.