[جريمة شهادة الزور]
قال في الحديث: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) يعني: من أعظم الكبائر قول الزور، وشهادة الزور، قال أبو بكرة: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت! ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى الصحابة من أنفسهم، فإنهم لما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتكراره: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، رحموه وأشفقوا عليه فقالوا: ليته سكت! يريدون من أجل أن يكف غضبه.
وإنما كرر شهادة الزور ولم يكرر بقية الكبائر المذكورة في الحديث؛ لأن الشرك يندر في الصحابة ومن بعدهم بعد ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وتمنع عقوق الوالدين طبيعة الإنسان وفطرته، أما قول الزور وشهادة الزور فإن تقوى الله هي التي تمنع المسلم من إتيانها وليس كل إنسان عنده هذه التقوى.
أضف إلى ذلك أن قول الزور وشهادة الزور ذات ضرر متعد، فبسببها تجد الإنسان البريء يدان أمام القاضي بأعمال ما فعلها، بل شهد بها عليه أحدهم كاذباً، فاجراً، مزوراً في شهادته، بل قد تقطع رقبة إنسان بسب ذلك، وقد يسجن أو يقام عليه الحد بسبب شهادة الزور.
وكم من إنسان تفتنه الدنيا، ومن أجل أن يأخذ لعاعة مال يتجرأ على أن يشهد زوراً عند القاضي، ومثل هذا الشيء موجود في الخلق منذ القدم، فلم يخل عصر من الطمع في المال.
وقد يشهد الإنسان زوراً على آخر لأنه مبغض له، وقد حدث مثل ذلك في عهد نبي الله سليمان، وهو من أخبر الله سبحانه عنه وعن أبيه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٨ - ٧٩].
أي: أن الله عز وجل فهم سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو صغير مع أبيه، فقد يأتي الناس يسألون أباه عن الشيء، ثم يفتي أو يحكم فيهم بشيء ثم تعرض على سيدنا سليمان فيرى شيئاً آخر غير ما يراه أبوه، وذلك لأن الله عز وجل الذي فهمه، قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩].
وكان من ضمن القضايا الذي عرضت عليهما: قضية شهادة الزور، فإن أربعة ذهبوا إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وشهدوا عنده على امرأة أنها زنت بكلبها، وهم في حقيقة أمرهم كاذبون.
ومع أن داود عليه السلام نبي من الأنبياء معصوم إلا أنه في الأحكام الدنيوية يحكم بما يراه أمامه، وذلك حتى يُتَعلم منه كيف يحكم بين الناس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين الناس بما رآه صلى الله عليه وسلم في القضية نفسها، وكان يقول: (إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فهي قطعة من النار فليأخذ أو فليذر).
فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بإمكانه أن يسأل ربه فيطلعه على حقيقة كل قضية ويقول له: فلان كذاب، وفلان صادق، فيحكم بالوحي في هذه القضايا، إلا أن من يأتي بعد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم سيختلط عليه الأمر، إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه، أما من بعده فلا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وفي مثل هذه القضية حكم داود عليه السلام، بعد أن شهدوا على المرأة أنها زنت، فقضى بقتلها، فلما سمع ذلك سليمان وهو صغير عليه الصلاة والسلام قال: لو كنت أنا ما قضيت بذلك! فلما بلغ داود قوله دعاه أن يقضي بتلك القضية فكان قضاؤه جميلاً عليه الصلاة والسلام فقال: أحضروا الشهود، فلما جيء بالشهود فرق بينهم، وسأل الأول منهم: ماذا رأيت؟ قال: رأيتها تزني بكلبها.
قال: أين رأيتها؟ قال: في المكان الفلاني.
في أي موضع منه؟ قال: في كذا.
فما كان عليهم من الثياب؟ قال: كذا، فما لون كلبها؟ قال: لونه كذا.
ثم صرفه وأتى بالثاني وسأله نفس الأسئلة فأجاب بعكس الأول، ثم طلب الثالث ثم الرابع، فثبت كذب الشهود، فقتل الأربعة الشهود الذين شهدوا على هذه المرأة وقتلت بشهادتهم.
وبذلك تعلم خطر شهادة الزور وندرك سبب غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور).