[شرح حديث: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما)]
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا بأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً) عليه الصلاة والسلام فكان إذا خير بين أمرين أحدهما فيه عنف والثاني فيه رفق اختار ما فيه رفق عليه الصلاة والسلام، فكان دائماً سهلاً ويحب السهل، صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فإن كان إثماً) أي: إن كان هذا الأيسر فيه إثم فلا يختاره؛ لأنه كان أبعد الناس عنه، صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط).
وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! اعدل.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يعدل إن لم أعدل، خبت وشقيت إن لم أكن أعدل) أي: إذا كنت لا أعدل فأنت خائب وشقي، ولن تنتفع بهذا الأمر الذي أنت فيه إن كنت تتبع رجلاً ظالماً، ومع ذلك ما انتقم منه صلى الله عليه وسلم، وقال له رجل من الصحابة: (ألا أقتله يا رسول الله؟ قال لا.
لعله أن يكون يصلي) ولم يأمر بقتله، ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك الرجل الأعرابي الأحمق الغبي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بثوبه وخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته صلوات الله وسلامه عليه ثم قال له: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطوه) فحلم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ ليعلم الناس الحلم عليه الصلاة والسلام.
وفي إحدى المرات أتاه وفد من الأشعريين، وقد كان يحب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويقول: (هم مني وأنا منهم).
فجاءه الأشعريون في وقت كان مشغولاً فيه فقالوا له: احملنا.
ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فقال: (والله لا أحملكم على شيء) فحلف على ألا يحملهم على شيء، فذهب الأشعريون وعندما كانوا في الطريق كلم بعضهم بعضاً: لقد أغضبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا نعمل؟ فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم صدقات من الإبل، فأرسل إلى الأشعريين فأعطاهم من هذه الإبل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: لعلنا أحلفنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (قد حلفت يا رسول الله ألا تحملنا) وهذا من أدب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وهم أهل اليمن رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فهم أرق الناس قلوباً وأفئدة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتكم) يعني: لست أنا الذي حملتكم، ولم أحملكم من مالي، فكأنه لما حلف قصد ألا يحملهم من ماله؛ لأنه ليس له مال يحملهم عليه، وهذا مال الله، وصدقة من الصدقات التي جاءت فحملتكم على مال الله وليس على مالي، فلم يمنعه غضبه من أن يعطيهم هذا الشيء الذي طلبوه، طالما أنه ينفعهم ولا يضره صلى الله عليه وسلم ذلك شيئاً.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله).
فإذا انتهكت حرمات الله، كأن يقع إنسان في الزنا، أو في الكفر، أو يفعل شيئاً نهى الله عز وجل عنه، فينتقم منه النبي صلى الله عليه وسلم لله ويأمر بإقامة الحد عليه، فهو ليس انتقاماً بالمعنى الذي نفهمه، وليس فيه تشف، وإنما هذا الانتقام إقامة لحد الله عز وجل على هذا الإنسان الذي وقع في الخطيئة، قالت: (فينتقم لله) وليس لنفسه عليه الصلاة والسلام.