[شرح حديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا)]
من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) أي: أنزل نفسك وحط من قدرها يرفعك الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان الذي يتواضع يرفعه الله ويعزه ويعطيه من فضله سبحانه في الدنيا وفي الآخرة، أما الإنسان المستكبر فمهما استكبر فقد أبى الله أن يرتفع شيء إلا وضعه، فهذا يترفع ويرفع نفسه على الخلق فيضعه الله سبحانه وتعالى.
قوله: (إن الله أوحى إلي) أي: هذا من الوحي إليه صلى الله عليه وسلم، فقد أوحى إليه بـ (أن تواضعوا) حتى لا يفخر أحد على أحد، يعني: تخلق بدرجة التواضع حتى لا تفخر على أحد، وحتى لا تقول: أنا كذا وأنت كذا، وحتى لا ترى لنفسك فضلاً على أحد من الناس، ولكن انظر للجميع على أنهم إخوة لك في دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه جعل بعضكم لبعض سخرياً.
فمن كرمه سبحانه جعل بعضكم قوياً وبعضكم ضعيفاً، فيحتاج الضعيف إلى القوي، فجعل بعضكم عاملاً وبعضكم موظفاً وبعضكم طبيباً، فيحتاج بعضكم إلى بعض، فلو جعل الجميع شيئاً واحداً ولم يحتج أحد إلى أحد لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم شيئاً، ولكن الله بكرمه أحوج الناس بعضهم إلى بعض؛ لتكون الألفة، وليكون التعارف، ولتكون المحبة بينهم، والاحتياج يولد ذلك، فأنا إذا احتجت لفلان من الناس، فإني أتلطف معه لكي يعمل الشيء الذي لا أستطيع أن أعمله، والعكس كذلك.
فهنا جعل الله عز وجل الناس أصنافاً شتى حتى يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، يعني: أنا أستخدمك وأنت تستخدمني، فيحتاج بعضنا إلى بعض، فيرفق بعضنا ببعض، فنتعارف ونتحاب فيما بيننا.
قوله: (ولا يبغي أحد على أحد) أي: أن الذي يبغي تكون نهايته النار، وهذا الإنسان ظالم، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:٤٢] فهؤلاء هم الذين عليهم حرج وعليهم السبيل، وأذن الله للمؤمنين أن يأخذوا حقهم من هؤلاء المعتدين.
وهذا المعنى جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي، ورواه أبو داود أيضاً بالمعنى، ورواه أحمد، ولفظ الترمذي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه) هذا تحذير شديد من النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تفتخر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين أقوام) والفعل المضارع إذا دخلت عليه اللام التي للتوكيد وانتهى بالنون المثقلة التي هي أيضاً للتوكيد دل على جملة القسم، فكأنه هنا يوجد قسم محذوف تقديره: والله لينتهين أقوام عن ذلك أو ليفعلن الله بهم كذا وكذا.
فهؤلاء الذين يفتخرون بهم إنما هم فحم جهنم، فهم يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية وكانوا كفاراً، أو يفتخرون بعد ذلك بآبائهم الفجار والفسقة الذين كانوا أصحاب مناصب في يوم من الأيام، كأن يقول: كأن أبي كذا، مع أن أباه كان فاسقاً، ولم يكن يدخل المسجد، إلا عندما مات أدخلوه المسجد وصلوا عليه، وبعد ذلك يقول: كان أبي وكان أبي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الافتخار بالآباء الذين ماتوا على هذا الشيء، فهؤلاء قال عنهم أيضاً: (أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه)، والجعل كالخنفساء، وهو الذي يحرك بأنفه القذر والنجس، وهذا لو أبصرته أمامك لدسته برجلك ليموت؛ لحقارته عندك.
فهؤلاء إما أن ينتهوا عن افتخارهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله عز وجل كهذا الشيء الحقير، ثم يأخذهم ويلقي بهم في نار جهنم ولا يأبه لهم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء) العبية: الكبر والافتخار.
ثم قال (إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي) يعني: الناس إما مؤمنون أتقياء أو فجرة أشقياء، والناس كلهم لآدم وآدم من تراب، فكل إنسان عندما يقول: أبي كذا وأبوك كذا، فليعلم أن الأب واحد وهو آدم، والجميع ينتهون إلى آدم، وآدم أتى من تراب، فلا داعي أن يفتخر الإنسان بخلقته، والكل سواء في أن أباهم آدم وآدم من تراب.