[حق العباد على الله]
فهم إذا فعلوا العبادة لهم حق، وليس العبد هو الذي فرض الحق على ربه سبحانه، وإنما ربنا هو الذي ألزم نفسه بذلك بفضله وكرمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو كتب على نفسه كتاباً وجعله فوق عرشه: (إن رحمتي تسبق غضبي)، لا يلزمه أحد، ومن يقدر أن يلزم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ هو ألزم نفسه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم على نفسه الظلم فقال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فنهى عباده عن الظلم، ومن يحرم على الله عز وجل شيئاً؟ الذي يحرم هو الذي يملك أن يشرع، والذي يخلق، والذي يرزق، والذي يعطي ويمنع، والذي ينفع ويضر، والعبد لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره- شيئاً فكيف يملك لربه سبحانه؟! فلذلك ربنا هو الذي ألزم نفسه أن رحمته تسبق غضبه، وألزم نفسه سبحانه أنه يعطي هؤلاء العباد إذا عبدوه حقاً لهم على الله سبحانه أنه لا يعذبهم.
قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لم يشرك به شيئاً): كلمات يسيرة قليلة ولكن تحتها المعاني الكبيرة الكثيرة، ولا يغتر العبد بألا يفهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول: أنا أقول لا إله إلا الله، أنا أوحد ربنا، أنا لا أشرك بالله سبحانه، وإذا وقع في ضيق أو مصيبة دعا غير الله سبحانه، وتوسل بغير الله سبحانه فقال: يا سيدي فلان! أنقذني، قد ينظر لغير الله فيقول: لله علي أن أذبح عند قبر سيدي فلان إذا حصل كذا، فيطلب من غير الله ما لا يجوز له أن يطلبه إلا من الله سبحانه تبارك وتعالى.
كم من إنسان يشرك بالله الشرك الأكبر وهو لا يدري ما هذا الذي يقع فيه؟ ولايدري أن هذا الذي يقول استغاثة بغير الله سبحانه؟ أن يعتقد أن الجن تعلم الغيب وتنفع وتضر، كم من المسلمين من يقول: لا إله إلا الله ويعتقد مثل هذه الاعتقادات! كم من إنسان إذا فعل فعلاً نسب هذا الفعل والعون فيه لغير الله، فلاح يزرع فتمطر السماء فيصبح يقول: أتت السماء بالماء وبالمطر.
وينسى الله سبحانه تبارك وتعالى! وهذا من الشرك بالله الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه على إثر ليلة ممطرة: (هل تدرون ماذا يقول ربكم؟ يقول الله تبارك وتعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
نسب المطر إلى غير الله، ولكن العبد يقول: الله عز وجل هو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يأتي بالمطر، وهو الذي يكشف الضر ويأتي بالخير بفضله ورحمته.
فالعبد لا يشرك بالله شيئاً، وهنا نكر (شيئاً) أي: لا يشرك ولو أدنى الأشياء، فهي نكرة في سياق النفي، والمعنى: أنه في أي شيء من عبادته لا يشرك بالله شيئاً يسيراً، لا شركاً أكبر ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً.
فمثال الشرك الأصغر: أن يجيء اللصوص إلى البيت فتقوم البط التي في البيت تصوت، يصبح الصبح ويقول: لولا البط لكان اللص قد سرق الحاجات في الليل.
ونسي من الذي أعطى البط هذا الصوت والذي نبههم على ذلك، نسي الله سبحانه ونسب الفضل لغيره.
أو يقول: ولولا الكلب في الدار لسرقنا اللصوص في الليل، ينسى ربه سبحانه وينسب الفضل لغير الله سبحانه.
يقوم يصلي فيجد الناس ينظرون إليه وهو يصلي فيقول في نفسه: أطيل حتى يقولوا: إن صلاتي طيبة.
الناس يمدحونه في شيء فيقولون: أنت تصلي صلاة طيبة فيقول لهم: بل وأنا صائم كذلك، يبقى هنا كأنه يظهر نفسه أنه عابد مع أنه ما أحد سأله عن أنه صائم أو غير صائم.
فهذا شرك يكون في قلبه يريد أن يظهره أو يظهر على فلتات اللسان، فيظهر هذا الشيء من الرياء ونحوه، فالله عز وجل يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) يترك كل عمله الذي راءى فيه.
فهنا الحديث وإن قلت كلماته لكن معانيه عظيمة كبيرة قد يضيق عنها أفق البعض من الناس، فلذلك لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟) أي: بأن الذي سيموت وهو يقول: لا إله إلا الله سيدخل الجنة؟ (قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، أي: يتكلوا على قول: لا إله إلا الله ويتركوا العمل إن أساءوا فهم ذلك، وقد قال الله عز وجل في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:٥٩].
قد يقول العبد: أنا لا أصلي ولا أصوم ولا أعمل إلا بقول: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة! في حديث آخر: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وما يدريك أنك تقدر أن تنطق بهذه الكلمة في آخر حياتك أم لا تقدر عليها؟ وكم من إنسان وهو في سياق الموت يقال له: قل لا إله إلا الله فلا يقدر على أن يقول هذه الكلمة! ولعله يتكلم بأي شيء آخر وعند هذه الكلمة لا يقدر أن ينطق بها، فهي كلمة عزيزة وغالية، وكلمة لا يقدر عليها كل إنسان في حال وفاته، في الحياة قد يقولها الإنسان كثيراً.
ولكن من مات على هذه الكلمة رجونا له هذه البشارة، أنه من أهل لا إله إلا الله، وأنه لا يعذبه الله سبحانه تبارك وتعالى.